الشيخ الحبيب فارس.. مسيرة حافلة في مضمار الجهاد والعلم

يجمع أهل الفكر والمعرفة، على غزارة علم وفقه الشيخ الحبيب فارس، نابغة تبسة، فهو الرجل الذي استطاع أن يجمع خلال مسيرته بين مختلف الفنون الشرعية، والدينية والدعوية، واستحق بذلك حسب الدكتور عبد الرحمان شيبان، وزير الشؤون الدينية السابق، أثناء حضوره إحدى محاضرات “الشيخ لحبيب فارس” لحضور أشغال ملتقى الفكر الإسلامي، أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وصف “الفارس المغوار”.
ونال الشيخ لحبيب فارس الذي تستعد ولاية تبسة لتخليد ذكرى وفاته الواحدة والثلاثين يوم 22 مارس الجاري، إعجاب وإشادة علماء العالم الإسلامي أثناء زيارتهم لولاية تبسة، أثناء ملتقى الفكر الإسلامي، وكان أحد رجالات جمعية العلماء المسلمين، خاصة بعد أن تولى الشيخ العربي التبسي إدارة شؤونها، وكان له الفضل في تأسيس مدارس ومساجد تابعة لها. فمسيرته طيلة 75 سنة كانت حافلة، وقد يسر له الله أن يكون أول من حفظ القرآن الكريم بقرية بحيرة الارنب جنوب تبسة وهو في ريعان الشباب، ورغبة من والده الشيخ محمد بن سلطان، وأفراد أسرته الذين يعرفون قيمة العلم وأهل القرآن خاصة أن ابنهم سموه بالحبيب بعد ولادته سنة 1919م، اقتداء بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد أن حفظ القرآن الكريم سافر مباشرة إلى تونس القريبة جدا من مسقط رأسه بقرية بحيرة لرنب، ببلدية العقلة المالحة، نحو 30 كلم جنوب تبسة، حيث توجه إلى مدينة نفطة التونسية، أين التحق بزاوية سيدي مصطفى بن عزوز الجريدي النفطي الرحماني غير بعيد عن الحدود الجزائرية، حيث درس هناك وبرز في دراسته مما أهله وانتقل مباشرة إلى جامع الزيتونة، أين تحصل على شهادة التحصيل العالية في العلوم العربية والدينية، وتمكن من البروز في مختلف العلوم الدينية واللغوية والبلاغية.
تضييق استعماري
ولم يقتصر تواجد الشيخ “الحبيب فارس”، بتونس على التحصيل العلمي فقط، بل واعتقادا منه بأن الدين كامل متكامل، وشامل لجميع جزئيات الحياة، خاصة إذا تعلق الأمر باحتلال بلدك فقد انخرط في جمعية الطلبة الجزائريين بتونس، موجها ومرشدا ومناضلا للقضية الوطنية العادلة، وقد شارك في عدة مظاهرات ضد الاحتلال كلفته الاعتقال والتحقيق والزج به في السجن لمدة 6 أشهر تقريبا، وبعد عودته إلى أرض الوطن التحق مباشرة بجمعية العلماء المسلمين، وكان من المقربين إلى الشيخين العربي التبسي وعبد الحميد بن باديس، رحمة الله عليهما، لتسند له مهمة التدريس بمدرسة التهذيب بتبسة، والتي أسسها الشيخ العربي التبسي، لينتقل بعدها إلى بئر العاتر المتواجدة على مسافة 90 كلم جنوب تبسة، أين أسس مدرسة قرآنية بمساهمة أبناء المنطقة، ثم اهتم بتأسيس أول مسجد ببئر العاتر، يعرف الآن بالمسجد العتيق، فكان مدرسا وواعظا بالمسجد ومرشدا، حيث سكن قلوب أبناء بئر العاتر، الذين تهيؤوا واستعدوا لتكون منطقة بئر العاتر، ومختلف الجهات الحدودية، الشريان الحيوي للثورة التي تزود مجاهديها بمختلف الأسلحة من الجهة الشرقية للحدود الجزائرية، حيث كان مئات المجاهدين يتطوعون رغم الصعوبة في جلب السلاح، حتى سقط منهم في كمين واحد، العشرات من الشهداء بمنطقة سكياس.
ومع اندلاع الثورة المباركة، لعب الشيخ “الحبيب فارس”، دورا كبيرا في تجنيد الثوار والالتحاق بالثورة وتوفير المؤن للمجاهدين من حر ماله ومن التبرعات رغم تضييق الخناق على أي تحرك يقوم به، وقد عين مسؤولًا عن الفئة المجاهدة في الناحية وعلى كل الجهات، مساهما من حيث التخطيط والتدبير في عدة عمليات فدائية ضد فرنسا، وبسبب نشاطه تم متابعته، حيث أدركت الإدارة الفرنسية خطر الشيخ ودوره غير المحدود في تموين المجاهدين بما يحتاجونه من مواد مختلفة، حيث وضع تحت المراقبة دون السماح له بالتحرك إلا لمنزله ومدرسة الشيخ العربي التبسي لأداء الصلاة لأزيد من 60 يوما، ليتم بعدها اعتقاله والتحريض عليه حيث أحرق منزله سنة 1955، وصودرت أمواله وأرزاقه.
تمسك بالمسجد العتيق
وظل ينقل من معتقل إلى معتقل إلى أن استقلت الجزائر، حيث أسندت له مهمة مسؤول سياسي عن جبهة التحرير الوطني ثم مسؤوليات اجتماعية متعددة بالمنطقة، وقد اقترح عليه منصب الإفتاء بوزارة الشؤون الدينية، وأستاذا للتعليم الثانوي، لكنه رفض وبقي متمسكا بمسقط رأسه والقيام بالدعوة والإمامة بأول مسجد بولاية تبسة وهو المسجد العتيق فتعلق به السكان وكان حديث عامة الناس وخاصتهم وتداول دروسه ومواعظه وإرشاداته بكل مكان، فكانت صلاة الجمعة بالمسجد العتيق عبارة عن عيد يأتيه الناس من كل مكان، فكان الكثير يأتي إلى تبسة يوم الخميس وينتظر الجمعة لأدائها والتزود بمواعظ وإرشادات الشيخ، ومع سبعينات القرن الماضي، تعلق به العشرات من الشباب والأساتذة، الذين اتخذوا من مسجده العتيق والمقصورة مركز إشعاع وتوجيه، فبالإضافة إلى التوجيهات العامة فكان موجها ومرشدا وناصحا لهم فكان يحذر من العصبية والقبلية والجهوية والبدع التي بدأت تبرز بين أفراد المجتمع.
ولعب الشيخ دورا كبيرا في الإصلاح بين الناس والأسر بمختلف مناطق الولاية وخارجها، وقد كانت دروس الشيخ على مدار الساعتين كل يوم جمعة تسجل بأجهزة التسجيل والتي لا يزال الكثير يحتفظ بها إلى يومنا هذا على أمل أن تصدر في كتب ومؤلفات، ومع مطلع تسعينات القرن الماضي بدأ الشيخ يحس بالتعب والمرض، حيث كانت سنة 1992 بداية لدنو رحيل الشيخ، الذي تحول مسكنه إلى قبلة إلى العائدين والزائرين ونظرا لتدهور حالته الصحية، تم نقله سنة 1993م إلى مصحة طبية بتونس للعلاج ثم لم يمكث طويلا وقررت أسرته العودة به إلى مسقط رأسه وكان ذلك يوم 22 مارس 1994، حيث فارق الحياة وهو عائد إلى وطنه، أين دفن بمقبرة بئر العاتر في جنازة وصفت هي الأكبر في تاريخ المنطقة، أين حضرها آنذاك رغم صعوبة المرحلة العشرات من المشايخ والعلماء واعترافات بجهوده في الإصلاح فقد خلد اسمه بالمركز الثقافي الإسلامي الذي يحمل اسمه.