-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

 الشُّورى بين الإستئناس والإلزام

 الشُّورى بين الإستئناس والإلزام

قال حكماء العرب قديما “نصفُ عقلك عند غيرك”.

وقد أدرك عقلاء الناس في مختلف الحضارات الإنسانية أنّ تقليب المسألة على آراء مختلفة يسوق غالبا إلى الرشد والقرار الأصحّ والأنفع. وارتبط الإلتزام بالتشاور مع الآخر بشخصية المستشير، وكلما غلب العقل وحسن الإدراك لديه كان أكثر لجوءا إلى معرفة رأي غيره فيما يتعرَّض له من مسائل في إدارة مصلحته أو مصالح من هم تحت رعايته ومسؤوليته.

وكان الإنفراد بالرأي والقرار وما يزال من السِّمات والصفات المستهجَنة والتي تلحق عادة بالجبابرة والمستكبرين أو بالضعفاء ومحدودي الأفق في أحسن الأحوال. وكلما عظمت مسؤولية الشخص وعلا منصبُه ومركزه في قومه اشتدّت حاجته إلى رأي غيره ومشورته.

اُعتُبِر الإستبداد بالرأي في بعض المجتمعات البشرية مظهرا من مظاهر القوة والقدرة على القيادة وقوة الشخصية. قال الشاعر:

ليت هندا أنجزتنا ما تعد

وشفت أنفسنا مما تجد

واستبدّت مرة واحدة

إنّما العاجزُ من لا يستبدّ

واعتُبر عدم الإستبداد عندهم مظهرا من مظاهر العجز.

وقد عرفت البشرية في مراحل كثيرة من تاريخها هذا الصنف من الناس، وانتشرت فيهم هذه القناعة إلى درجة اعتُبِر فيها عدم الإلتزام بقرار المستبد ورأيه جريمة موجِبة للعقوبة وتصرّفا مستهجَنا يدل على العصيان والخروج عن طاعة ولي الأمر وتفريقا لكلمة الجماعة. ونشأ تبعا لهذا تيارٌ مؤصِّل للإستبداد ومُقَعِّدٌ لشرعية تصرفات المستبدين.

وتميزت هذه المجتمعات بالإكراه المادي والتخلف العلمي والثقافي، وأصبح الحق فيها قرين القوة لا العدل، والمصلحة لا الحق. ويؤكد التاريخ أنّ هذه المجتمعات انهارت وتشتت شملها بفيروس الإنفراد بالرأي والقرار، سواء أكانت دولا أو جماعات أو أحزابا. وما زال التاريخ إلى يوم الناس هذا يؤكد هذه الحقيقة.

عرف التاريخ الإسلامي هذه الإشكالية عبر تاريخه الطويل، ونشأت لدى الأمة تياراتٌ فكرية وفقهية مختلفة انصرف بعضها إلى قناعة مؤدّاها أنّ الشورى ملزِمة وأنّ قرارها يُلزِم الحاكم والمحكوم على حد سواء. بينما انتصر بعضها الآخر إلى اعتبارها غير مُلزِمة للحاكم دون المحكوم وأنّ الحاكم يستأنس بالشورى، فإذا عزم على خلافها أمضى رأيه وضرب بقرار الشورى عرض الحائط.

ما زالت أنظمة لشعوب إسلامية تأخذ بالرأي الثاني. كما أنّ جماعات سياسية وإصلاحية تذهب نفس المذهب. ولكن الأسوأ والأنكى أنّ بعضها ينصُّ في وثائقه الأساسية على إلزامية الشورى، لكنه عمليا يأخذ بالرأي الثاني فيجعلها مجرد رأي للإستئناس. وهذا الصنف الأخير يعكس تخلفا فكريا، وفسادا في الحكامة، ومرضا في الطبع، وسوءا في الخُلق.

عرفت البشرية في مراحل كثيرة من تاريخها هذا الصنف من الناس، وانتشرت فيهم هذه القناعة إلى درجة اعتُبِر فيها عدم الإلتزام بقرار المستبد ورأيه جريمة موجِبة للعقوبة وتصرّفا مستهجَنا يدل على العصيان والخروج عن طاعة ولي الأمر وتفريقا لكلمة الجماعة. ونشأ تبعا لهذا تيارٌ مؤصِّل للإستبداد ومُقَعِّدٌ لشرعية تصرفات المستبدين.

ولعل الترهل العلمي والفكري والسياسي والتنظيمي والمعاشي في المجتمعات الإسلامية مرجعه إلى عدم الحسم في هذا الموضوع وتوظيفه توظيفا مصلحيا ضيقا.

إنّ التّمعن في كتاب الله عز وجل والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يفتح أمام أبصارنا وعقولنا مخرجا لعلّه أهدى وأقوم سبيلا. وبقراءة متأنية للآيتين الكريمتين: “وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ” سورة الشورى، “فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ” سورة آل عمران، يمكن الوصول إلى ما يلي:

1 / ارتبطت الشورى بأمر المسلمين كله، فلا يستقيم أمرُهم إلا بها. وأمرهم هنا مصطلحٌ مطلق يشمل كل حياتهم.

وأمر الفرد هنا ليس كأمر الجماعة، وأمر الجماعة الأكبر مقدَّمٌ على أمر الجماعة الأصغر، وأمر الأمة برمتها مقدَّم على أمر الجماعات مهما كبُرت. وعليه لا يستقيم أمر الدولة إلّا إذا كانت خاضعة خضوعا كاملا لقرار الشورى.

والشورى بهذا المعنى تُعدّ –سياسيا- ركيزة الحكم وأصله، وما تقرّره يُلزِم كل مسؤولي الدولة بما فيها رأسها وكل أجهزتها الأخرى، ولذلك أمر رسول الله بالسمع والطاعة لولي الأمر لأنه لا يُنَفِّذُ رأيه ولكن يُنفِّذ قرار الشورى (اسمعوا وأطيعوا ولو تأمَّر عليكم عبدٌ حبشي رأسه كزبيبة) والصياغة هنا لا تفيد التحقير ولكنها تفيد إلزامية التّقيُّد بالقرار لأنّ القائم على الأمر ملزَم بتنفيذه، فهو في الحقيقة ليس قراره هو بل هو قرار الشورى، فإذا امتنع ذلك المجتمع عن السمع والطاعة فسد أمرُهم وذهب ريحهم.

إنّ عدم الإلتزام بالشورى هنا لا يمكن إلّا أن يوصف بالظلم والإستبداد، وعليه يسقط معنى الإلتزام بقرار ولي الأمر. وهذه القاعدة تحكم كل تنظيم يؤسَّس على الإلتزام بالشورى سواء كان هذا التنظيم صغيرا أو كبيرا.

2 /  يجب هنا عدم الخلط بين الشورى والإستشارة (وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله) والإستشارة واجبة كإجراء، لكن نتيجتها لا تُلزِم المستشير الذي تحكمه في هذه الحالة فكرة العزم. والعزم هو انعقاد الإرادة على فعل الشيء، وقد تنعقد إرادة المستشير بعد أن يستنير له الطريق إمّا بترجيح رأي أو بالفصل فيما استشار فيه بخبر يقيني كأن يكون وحيا بالنسبة للرسل أو يكون حقيقة علمية أو واجبا بالنسبة للغير.

وقد تكون الإستشارة مُنصبَّة على السلوك الفردي، أو على تصرف المستشير الذي يعود له الأمر، وذلك نظرا لمركزه كمُكَلَّف أو مسؤول، ومن أمثلة ذلك ربُّ العائلة؛ فربُّ العائلة مُلزَم بإدارة شؤون أهله والإنفاق عليهم، ولعله يلجأ في حسن إدارة شؤون العائلة إلى استشارة بعض أفرادها، غير أنه غير مُلزَم بنتيجة الإستشارة إذا تبيّن له رأي أصوب في غيرها نظرا لمسؤوليته المطلقة والمعروفة في المدرسة الإسلامية بـ”القوامة”.

إنّ عدم الخلط، والتفريق الدقيق في إدارة شأن المجموعة بين المجتمع السياسي المنتظم والجماعات مهما كان اسمُها والمحكومة بنصوص أساسية محل توافق بين أفرادها، وبين المسؤولية الشخصية والفردية للشخص على مجموعة بنص أعلى لا دخل لأفراد المجموعة فيه. إنّ عدم الخلط بين مسؤولية الإدارة هنا أمرٌ بالغ الأهمية، فالأول مُلزِم بقرار الشورى لتوافق المجموعة على النصوص المنظمة لسيرها، في حين أنّ الثاني لا يلزم إلا بالإستشارة دون الإلتزام بالنتيجة للمسؤولية الفردية والشخصية على إدارة شأن الجماعة.

ويجب التنبيه إلى الخلط الكبير الذي وقع بين الحالتين بحيث اعتبر كثير من ولّاة الأمور في الدول والأحزاب والجمعيات والنقابات أنّ من يتم تكليفه واختياره لإدارتها تطلق يده في التمكين لقراراته ورأيه دون التقيد بأي مؤسسة في التنظيم الذي يشرف عليه معتبرا مركزه كمركز الأب في الأسرة أو كمركز المالك في ملكه.

والواضح أنّ من أهم أسس الإستبداد ومرتكزاته وتبريراته هذا الخلط الشنيع بين آثار الشورى والإستشارة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!