-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الشّتاء.. ربيع العابدين وفرصة الأغنياء

سلطان بركاني
  • 679
  • 0
الشّتاء.. ربيع العابدين وفرصة الأغنياء

أيام قليلة، ونكون على موعد متجدّد مع فصل الشّتاء؛ فصل الخيرات والبركات، على ما فيه من العُسر والمضرات.. مهما أصاب العبادَ فيه من لسع البرد وصعوبة التنقل وتعسر الأعمال والأشغال وزيادة المصاريف، إلا أنّ النّاس جميعا يستبشرون فيه خيرا وهم يرون الأرض ترتوي حتى تسيل المياه على ظهرها وحتى تتفجر العيون وتمتلئ السدود.
العبد المؤمن يستبشر في فصل الشّتاء بالخيرات والبركات ويحمد الله عليها، يشكر مولاه على نعمة الغيث والدّفء والطّعام والغطاء واللباس، وهو يستذكر حديث النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافىً فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيْزَتْ لَهُ الدُّنْيا” (رواه الترمذي).
ومع حمد الله على الخيرات والبركات، فإنّ العبد اللبيب يحتاط للمضرات، ويتأهّب للبرد ويحذر الزكام ويسعى لتوفير الدّفء في بيته لأهله وأولاده من غير تفريط ولا إفراط.. ولا ينسى وهو يرصد ما يواجه به برودة الشّتاء أن يمدّ يد العون لإخوانه لمواجهة صعوبة العيش.. كان أمراء المسلمين وولاتهم في زمن مضى يتعاهدون النّاس عند حلول فصل الشّتاء خاصّة الفقراء منهم، ويوصون النّاس بأن يتعاهد بعضهم بعضا؛ فها هو أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله عـنه- كان يتعاهد النّاس عند حلول الشّتاء ويوصيهم قائلا: “إنَّ الشتاء قد حضر، وهو عدو فتأهبوا له أهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعاراً ودثاراً فإن البرد عدو سريعٌ دخوله بعيدٌ خروجه”.

الشّتاء فرصة الأغنياء والموسرين
في فصل الشتاء، تتفاقم معاناة الفقراء والمساكين، وهم يكابدون للحصول على ألبسة تقي أبناءهم لسع البرد، وأغطية تدثر أجسادهم بالليل، وقلوبُهم تتوجّس من فاتورة الكهرباء والغاز التي تجفّ بها حلوقهم.. هي معاناة تكابدها أسر كثيرة في فصل الشّتاء، تفتح بابا للبذل والعطاء أمام الموسرين والأغنياء.
من أعظم الصّدقات أجرا أن يكسو العبد طفلا يتيما أو شيخا كسيرا أو أرملة مسكينة، في أيام الشتاء ولياليه الباردة.. كيف لو تكفّل عبد أنعم الله عليه ووسّع له في رزقه بإعانة أسرة كاملة يدفع عنها فاتورة الكهرباء والغاز حتى لا تحرم تشغيل المدفأة في ليالي الشتاء الباردة، ويقتني لصغارها كسوة تدثّرهم وتقيهم لسعات البرد، ويحمل إليها ما يمكنه حمله من طعام يجتمع عليه أفراد الأسرة وتسعد به قلوبهم. يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-: “أَحَبُّ الأعمالِ إلى اللهِ -عزَّ وجلَّ- سرورٌ تُدخِلُه على مسلمٍ، تَكشِفُ عنه كُربةً، أو تقضِي عنه دَيْنًا، أو تَطرُدُ عنه جوعا”.
ومع الالتفات إلى الأرامل واليتامى والأسر الفقيرة، ينبغي ألا ننسى المأساة التي يعيشها إخواننا في غزّة في أيام الشتاء.. كان كربهم – ولا يزال – عظيما مع الإرهاب الصهيونيّ الذي لم يرحم امرأة ولا طفلا بريئا، ويزداد مع الشّتاء وهم يفرّون من مكان إلى آخر، يجتمع عليهم القصف والجوع والبرد.. الجوع يوهن أبدانهم والبرد يسيل مدامع أبنائهم الذين تفيض أرواح المئات منهم جوعا وبردا.. وإن نسي أصحاب القلوب الحية فإنّهم لن ينسوا دمعات تلك الطفلة المسكينة التي سألها الصحفي عن أمنياتها للعام الجديد، فقالت: أمنيتي أن نحصل على خيمة!

قبل أيام تناقلت كاميرات العالم صورا ومقاطع لما يعانيه أحبّتنا في قطاع غزّة.. نساء يذرفن الدّموع الحرّى، وأطفال ترتجف أوصالهم وهم يشكون إلى العالم برد أجسادهم وجوع بطونهم.. ولكن من يجيب؟ حتى إخوانهم المسلمون، انشغلوا بخلافات وفتن أجّجها بينهم الأعداء، ومنهم من انشغل بالمهرجانات في أيام يبكي فيها أطفال غزّة من الجوع والبرد.
ونحن في بلدنا – أدام الله أمنه – ليس يعفينا من المسؤولية أن نرفع أكفّ الدّعاء لإخواننا، بل ينبغي لنا أن نمدّ لهم أيدينا بالعون؛ هناك حسابات فتحتها جمعيات خيرية موثوقة، تستقبل الزّكاة والصّدقات، ولا عذر في التخلف عن تقديم شيء من أموالنا لتخفيف معاناة إخواننا. فليس يليق أن نتقلب في الدّفء وتمتلئ موائدنا بأصناف الطّعام، وأطفال غزّة يبكون ويصرخون من وطأة الجوع والبرد.. كان سيّد التابعين أويس القرني –رحمه الله- إذا أمسى تصدّق بما في بيته من فضل الطّعام والشّراب، ثم قال: “اللهمّ من مات جوعا فلا تؤاخذني به، ومن مات عريا فلا تؤاخذني به”.

الشّتاء ربيع العابدين
الشّتاء فصل يبتلى فيه الفقراء، ويمتحن فيه الأغنياء وتفتح لهم فيه أبواب السّماء ليبنوا دورهم وقصورهم وخيامهم وبساتينهم في الجنّة.. وهو أيضا فصل للعابدين، يطول ليله للقيام ويقصر نهاره للصيام، والمحروم حقيقة هو من حرم الصيام والقيام في فصل الشتاء الذي كان السلف يسمّونه الغنيمة الباردة.
أخرج الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- بسند فيه مقال من حديث أبي سعيد الخدري -رضي الـله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: “الشتاء ربيع المؤمن”، وزاد البيهقي: “طال ليله فقامه، وقصر نهاره فصامه”، وقد صحّ هذا الكلام عن عمر بن الخطّاب وأبي هريرة وعبد الله بن مسعود –رضي الله عنـهم-. قال عمر -رضي اللـه عنه-: “الشِّتَاءُ غَنِيمَةُ الْعَابِدِينَ”، وقال أبو هريرة -رضي اللـه عنه-: “أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى غَنِيمَةٍ بَارِدَةٍ؟ قالوا: ماذا يا أبا هريرة؟ قال: الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ”. وكان عبد الله بن مسعود –رضي اللـه عنه- إذا حلّ الشّتاء يقول: “مرحبًا بالشتاء؛ تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام”، وثبت عن الحسن البصري -رحمه الله- أنّه قال: “نِعم زمان المؤمن الشتاء؛ ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه”، وعن عبيد بن عمير – رحمه الله – أنه كان إذا أقبل الشتاء، قال: “يا أهل القرآن، طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا”.
ومن أروع ما يستحثّ الهمم لاستثمار أيام الشتاء ولياليه، قول عبد الله بن مسعود –رضي اللـه عنه-: “أَلَا إِنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يعجب لرَجُلَيْن: رَجُلٍ قَامَ فِي لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ مِنْ فِرَاشِهِ وَلِحَافِهِ وَدِثَارِهِ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَامَ إِلَى صَلَاةٍ، فَيَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلَائِكَتِهِ: مَا حَمَلَ عَبْدِي هَذَا عَلَى مَا صَنَعَ؟ فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا رَجَاءَ مَا عِنْدَكَ، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدَكَ، فَيَقُولُ: فَإِنِّي قَدْ أَعْطَيْتُهُ مَا رَجَا، وَأَمَّنْتُهُ مِمَّا خَافَ”.
فيا الله! يعجب الله لرجل يقوم في ليلة باردة من فراشه ولحافه فيتوضّأ ويصلّي، فيُشهد الرّحيم –سبحانه- ملائكته أنّه قد أعطى عبده ما أراد وسأل.. ويا الله! ما أشدّ غفلة وحرمان من ينسى هذا الفضل العظيم، ويصرّ على قتل ساعات ليل الشتاء الطويلة في السهر على تفاهات المواقع، فينام متأخرا، ويستيقظ بعد طلوع الشّمس، لا يقوم ليلا ولا يصلّي فجرا! كان في فصل الصّيف يتعلّل بأنّ الليل قصير، وهو الآن في فصل الشّتاء يقضي ساعات الليل في الدّفء ساهرا على التفاهات وينام عن صلاة تشهدها ملائكة الليل والنّهار ويرضى الله عمّن يشهدها.
الشتاء غنيمة المؤمن، وكلّما كانت المشقّة فيه أعظم كان الأجر أغزر وأجل.. يقول الحبيب المصطفى -صلى اللـه عليه وسلم-: “أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟”. قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: “إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ” (أخرجه مسلم).
فالله الله أن يغرينا دفء الفراش عن صلاة الفجر، والله الله أن يحول الكسل بيننا وبين صلاة الفجر في بيت الله في هذه الأيام الباردة، فإنّ الأجور تضاعف، يقول النبيّ –صلّى الله عليه وسلّم-” بشر المشائين في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة”، هذا في الأحوال العادية، كيف بليالي الشتاء الباردة؟ كيف والأمطار تهطل؟ كيف والثلوج تكسو الأرض؟ كيف لو انقطع الكهرباء وساد الظّلام؟ ((وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)).

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!