الصراع في النظام الدولي.. جيوسياسي أم حضاري؟

شهدت العقود الأخيرة تحولات جذرية في بنية النظام الدولي، إذ تراجعت الأنماط الإمبراطورية لصالح نموذج الدولة القومية المستقلة كوحدة أساسية للتفاعلات العالمية، وهو ما مثّل توجّهاً حضارياً تدريجياً نحو تبنّي الفكرة الحضارية الغربية التي تقوم على مبدأ الحرية في العلاقات الإنسانية والنهج الديمقراطي في الحكم. وهذا التوجه الراقي في الفكر الإنساني الذي توّج رحلة البشرية الطويلة نحو الحرية والإبداع الحضاري العالمي، بعد أن حطّ رحاله بقدر الله في أوروبا الغربية التي أهّلها الله لتلك الريادة الحضارية التاريخية، لا يمكن أن يناسب النمط الإمبراطوري الذي طرحه المفكر الصيني تشانغ ويوي من خلال مفهوم “الدولة الحضارية”، والذي يشير إلى الإمبراطورية ككيان سياسي يتجاوز الدولة القومية التقليدية لتوحيد “فضاء كبير” يتميز بخصوصية حضارية واضحة.
لكن الفلسفة الحضارية الوحيدة التي يمكن أن تصمد وتنافس الفلسفة الغربية هي الفلسفة الإسلامية، لأنّها بدورها تُمثّل زُبدة النماذج الحضارية التي قامت على الدين وتجارب المؤمنين بالله في الحياة عبر العصور، حتى ظهور الإسلام في القرن السابع ميلادي الذي أكمل الله به دينه وأتمّ به نعمته على المؤمنين في شبه الجزيرة العربية ذات الطبيعة الصحراوية، بعيدا عن آثار الحضارات القديمة.
الحضارة المعاصرة بروحها الغربية الرائدة والمميزة لا يمكن أيضا، في أسوأ أحوالها، أن تطمئن إلى بدائل حضارية من العهد القديم لمعالجة أزماتها الطارئة. ومهما كانت تلك النماذج جاهزة من خلال الأمم التي ما زالت وفيّة لتراثها وتحمل بقايا من ثقافتها القديمة، فهي غير قادرة على منافسة النموذج الغربي في فلسفة الحرية التي استوعبتها ومارستها الشعوب الغربية منذ قرنين حتى أصبحت قدوة لكل الأمم التواقة إلى ذلك المبدأ الإنساني العظيم.
وما طرحه مثلا المفكّر السياسي الروسي ألكسندر دوغين في مقال بعنوان “لحظة الإمبراطورية، ما الذي يكمن وراء مصطلح ‘الدولة الحضارية’؟” والذي ترجمه ونشره مركز كاندل للدراسات (candlegrup.com)، في 10 أكتوبر 2023، بأنّ الوقائع تُظهر استمرارًا لأنماط إمبراطورية مموّهة، بالرغم من إدّعاء سيادة الدول، فالكاتب دوغين يوضّح بأن “الدولة الحضارية” تُعرِّف نفسها عبر هيمنة ثقافية- سياسية تشبه الإمبراطوريات القديمة، إذ تُدار المناطق التابعة لها عبر مراكز قرار استراتيجية موحّدة. هذا يتجلى في الممارسات الأمريكية المعاصرة، التي تجمع بين الخطاب الجمهوري وآليات الهيمنة الإمبراطورية، ما أدى إلى رفض هذا النهج من قبل القوى العظمى الأخرى، وساهم في طرح فكرة التعددية القطبية. وقد أشار دوغين إلى أنّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وصف روسيا بأنها “دولة حضارية” في اجتماع نادي فالداي الأخير (منتدى دولي للحوار تأسس في روسيا عام 2004)، مما يعكس توجهاً نحو فكرة الإمبراطورية.
وبهذا الصدد، يقترح الكاتب نموذجاً لعالم متعدد الأقطاب يتألف من سبع إمبراطوريات رئيسية:
- الإمبراطورية الغربية (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحلفاؤهما).
- الإمبراطورية الأوراسية (روسيا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي).
- الإمبراطورية الصينية (الصين وتايوان وبعض الدول المرتبطة بمبادرة “الحزام والطريق”).
- الإمبراطورية الهندية (الهند ونيبال وبنغلاديش ودول جنوب شرق آسيا المرتبطة بها).
- الإمبراطورية الإسلامية (تحالف محتمل للدول الإسلامية الكبرى مثل السعودية وإيران وباكستان وتركيا وإندونيسيا ودول المغرب العربي).
- إمبراطورية أمريكا اللاتينية (اتحاد محتمل بين البرازيل والأرجنتين ودول أخرى في المنطقة).
- الإمبراطورية الإفريقية (تحالفات إقليمية مختلفة داخل القارة).
ويخلص دوغين إلى أنّ هذه الإمبراطوريات السبع تشكّل نظاماً عالمياً متعدد الأقطاب، تتعايش بسلام وتعاون، مع احترام سيادة كل منها، مما يعكس تحوّلاً عن النظام الأحادي القطب الذي ساد بعد الحرب الباردة.
هذا الطرح يتطلب -في نظري- مراجعة الأسس الفلسفية للنظام الدولي بالاعتراف بتعدد المراكز والأفكار الحضارية المستلهَمة من فلسفاتها القديمة، وهذا يناقض توجه الأمم المعاصرة نحو تبني فلسفة حضارية واحدة تمثّل بنضجها وواقعيتها زبدة كل الفلسفات البائدة والتجارب البشرية في تنميتها، وهو ما لم يتبلور إلاّ في الفلسفة الغربية التي أصبحت تتعلّم منها كلّ الأمم وتأخذ منها ما أنتجته من فكر وعلم ومناهج في كل المجالات الحياتية.
ولقد قدّر الله أن يتحقق هذا النضج ويكتمل على يد الشعوب الأوروبية التي كانت مؤهَّلة لذلك في منطقة جغرافية لم تعرف دين الله عن قرب كما عرفه العرب أو اليهود، وبفضل نشأتها الطويلة على فكرة الإعتماد على قدراتهم الذاتية بالرغم من مساهمة محدودة للدين المسيحي في ثقافتها.
وانتشرت الحضارة الأوروبية الغربية في العالم بفضل غلبة عقيدة تمجيد الإنسان التي فجّرت طاقاتهم وقدراتهم في الإبداع، بعد تحرّرهم من ضلال رجال الدين المسيحيين وفسادهم وتوظيفهم السافل لتعاليم الدين، فحقّقت هذه الحضارة من الإنجازات المبهرة ما أتاح لها بلوغ الذروة في التأثير العالمي على جميع الأمم، وهي تطمح للمزيد من الإنجازات العلمية في تطوير الحياة المعاصرة وتنظيمها بشكل جريء لم يخطر على بال أحد من قبل.
إن العالم المعاصر القائم على نظام الدولة المستقلة ولو في حيّز ضيّق يرتكز على مفهوم الجيوسياسة في فهم العلاقات المعقّدة التي تربط الدول فيما بينها، بينما لا نجد مفهوما موضوعيا لفهم العلاقات التي تربط بين الأمم، لأنّ ذلك تجاوزه الفكر الغربي بقوانينه التي وضعها لتنظيم المجتمعات الحديثة وتوجيه مسار تطور الحضارة المعاصرة.
وهذا لا يعني أن مسألة الإتجاه الحضاري الإنساني حُسم لصالح الغرب وفكره وثقافته نهائياً، فهناك مقاومة خفيّة لهذا الإتجاه من قبل ورثة الحضارات القديمة، وبالخصوص ورثة الحضارة الإسلامية من المؤمنين بالله الذين لا يمكن أن يقبلوا بدفن عقيدة التوحيد، والخضوع لفكرة الإلحاد تحت وطأة إغراءات التطور الحديث المذهل.
لذلك لا أتوّقع أن تصمد فكرة التعددية القطبية أمام رسوخ فكرة الحرية على النمط الغربي في الفكر المعاصر وتصميم الغرب على الإستئثار بقيادة الحضارة الإنسانية. ولكن الفلسفة الحضارية الوحيدة التي يمكن أن تصمد وتنافس الفلسفة الغربية هي الفلسفة الإسلامية، لأنّها بدورها تُمثّل زُبدة النماذج الحضارية التي قامت على الدين وتجارب المؤمنين بالله في الحياة عبر العصور، حتى ظهور الإسلام في القرن السابع ميلادي الذي أكمل الله به دينه وأتمّ به نعمته على المؤمنين في شبه الجزيرة العربية ذات الطبيعة الصحراوية، بعيدا عن آثار الحضارات القديمة.
وهذه الفلسفة المؤمنة النائمة تمثّل في الحقيقة أساس مشروع الحضارة الإنسانية القادمة بحول الله، لأنّها تعيد النظر في مفهوم الحرية المطلقة الذي تبنّاه الغرب من دون ضوابط أخلاقية وفطرية، بربط هذا المفهوم بمسؤولية الإنسان أمام الله خالق السماوات والأرض وما فيهن.
وفي هذا السياق، يأتي طرح المنظور “الجيوحضاري” الذي ما أنفكّ اجتهادي مستمراًّ في صياغة مفهومه، والدعوة إلى قراءة جديدة لتطوّر الأحداث التاريخية وتطوّر الحضارة الإنسانية من خلاله، فهذا المنظور يُبرز سنن الله في التداول الحضاري بين الأمم، وبالخصوص بعد أن أصبحت الحضارة الإنسانية ذات اتجاه عالمي واحد بفضل تطور علوم الاتصالات.
وأرى من خلال هذا المنظور -الذي نشرت أبحاثي عنه في بعض كتبي- أنّ سعي الإنسان في بناء حضارته العالمية وصل إلى النضج التّام بعد تراكم التجارب السابقة، وهو بين اتجاهين لا ثلاث لهما في اختيار عقيدة الفكرة الحضارية: عقيدة الإيمان بالله، وعقيدة الإيمان بالإنسان، وقد وقع اختياره في هذا النموذج الغربي العالمي في هذا العصر على عقيدة الإيمان بالإنسان.
وبما أنّ الحضارة المعاصرة لا تؤمن إلا بالإنسان، فإنّ إرادته هي البارزة في مسار كل عملية استشراف، ونتائجه قائمة على طبيعة أفعال هذا الإنسان في مختلف بيئاته الجغرافية والسياسية والإقتصادية.
ونادرًا ما نجد أنّ مظاهر إرادة الله تُؤخذ في الحسبان في عمليات الاستشراف، لأنّ الأمر في ثقافة العصر عموما وعند المؤسسات المهتمّة بها خصوصا يتعلق بمناهج علمية لا دينية.
والاستشرافُ المعاصر يخضع لمنطق الأمة الغربية الغالبة التي لا تسمح بكل ما أوتيت من قوة، بانتقال قيادة الحضارة المعاصرة إلى أمة أخرى، فهذا خط أحمر لا يمكن تجاوزه، وما عدا ذلك فهو مسموحٌ بالتوقّع والدراسة والبحث. ثم إنّ إرادة الله في صنع الأحداث غائبة عن التصور الاستشرافي عند المعاصرين.
وهذه الحالة الحضارية التي فرضها اتجاه سير الغرب في التطور سبّبت حرجاً عظيماً في موقف المؤمنين من قضية الإنخراط في مشاريعهم، ورفعت من مستوى تحدّيات التأقلم معها إلى مستويات عالية وضعت إيمانهم في امتحان عسير.
ولكن هذا لا يمنع هؤلاء المؤمنين بالله، وهم يسيرون على نهج الغرب في التطور الحضاري، من الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إلى الإيمان بالله، حتى يتميزوا ويثبتوا على الطريق المستقيم الذي يمهّد بإذن الله إلى قيام جيل التأسيس المؤهَّل فعلاً لقيادة الحضارة الإنسانية من جديد، في الموعد الذي يقدِّره الله سبحانه وحده، فينال الشرف العظيم في إنشاء نموذج حضاري يتصالح فيه العلم مع الإيمان فتُسلم جلّ الأمم لرب العالمين. قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [النور: 55].