الصوم بلا طعام

يحلّ شهر رمضان المبارك للمرة الثانية وغزة ثم الضفة بعد أكثر من عام، تعيشان تحت كابوس الجوع والخوف وعدم الأمن. يحل رمضان، وغزة المدمَّرة تلم أشتات ما تبقّى من الإبادة، في ظل عدم اليقين من غد أفضل، بعد كل السيوف التي تهاوت عليها شرقا وغربا ومن كل حدب وصوب، ومن عدوٍّ لم يشبع من رؤية الدماء والدموع في كل شبر فلسطيني مهما صغر وتفتت وتشرذم ونهب واستوطن، حتى أن دموع الفرح باتت تؤلمه وتضربه في مقتل، وهو يرى الفرح الممزوج بالحزن والأسى والكمد في أعين الثكالى وعائلات المسجونين والمعتقلين من النساء والولدان والشيب والشباب، بعضهم قضى في السجن جلَّ شبابه وخرج الشاب شائبا، مريضا أو معوقا.
الكيان يمعن في سحق كل لحظة فرح في أعين من قهرهم الذل والخيبة أكثر من وقع الدمار. يحل شهر رمضان، والضفة والقدس ليستا بمعزل عن غزة، فلقد تساوت المظالم بتساوي الظالمين في القرب والبعد وحتى من ذوي القربى.
تنتهي المرحلة الأولى من وقف العدوان على غزة، وقد انتقلت العمليات العسكرية الوحشية إلى مخيمات الضفة، ليعيث فيها العدوُّ الغاصب دمارا وتخريبا وتهجيرا وتشريدا تماما كما فعل في غزة، حتى لا يبقى فيها شبرٌ يقبل البقاء.
غزة المقاومة بلا أكتاف من غير سواعد مقاوميها وشعبها البطل الأعزل الرافع للأنف والرأس والذي يأبى أن يرحل أو يُهجَّر ويفضِّل الدفن تحت الأنقاض عزيزا في غزة هاشم، رافع الهامة يمشي رافعا الراية يمشي. غزة، التي ترفض التنازل عن شرف العيش وكرامة الإنسان، تفضل الوفاء أمام قلة الشهامة ونذالة وجبن وصلف من لا شرف له ولا كلمة ولا عهد ولا دين له، غزة العزة هي اليوم أمام محكمة عالم يشاهد ولا يرى، ويسمع ولا ينصت: وفاء بالوعود والتعهُّدات والمواثيق، فيما الكيان المحتل يتنصّل ويتنكّر ويجادل ويهدد ويطالب بالمزيد من دون مقابل، إمعان في غطرسة المتبجِّح بنصر مطلق لم يتحقق على مدى 15 شهرا من كل صنوف وفنون قلة الرجولة وكثرة الآثام، مدعوما من طرف غلاة العالم مهد التشدُّق بالتحضُّر وتفوُّق الكائن الأبيض والجنس الأشكنازي المحتلّ العنصري المقيت.
يحضر رمضان وغزة تحت رحمة الدمار والخراب والعوامل الطبيعية والبرد والجوع ونقص من الأموال والسكن والثمرات والأدوية والأغطية والإيواء وكل ما في هذه الدينا من أبسط وسيلة للبقاء على قيد التنفُّس.
أمام كل هذا، يواصل الكيان الإمعان في التنكيل بكل ما هو فلسطيني وعربي ومسلم ومسيحي مقاوم، في غزة والضفة من طرف مجرمين مشهود لهم بالجرم المشهود في المحاكم الدولية، ولو بلا آلية للتطبيق، بغية تحويل مسار وقف إطلاق النار إلى مجرد صفقة تبادل أسرى مقابل مساجين: بلا حديث عن تعطيل الكيان لشروط الاتِّفاق وخرقه عشرات المرات والعبث به أكثر من مرة، على مرآى ومسمع الأشهاد في العالم ومعهم الوسيط الأمريكي الممثل الشرعي والوحيد للكيان في لجنة الوسطاء. الكل يطالب حماس بالتنازل إلى غاية الخروج من غزة بلا سلاح وتسليمها عقارا، إما للرئيس الحالم بريفييرا ثانية، ليستمتع بها سادة الغرب، أو لكيان يخدم الكيان، ولا أحد تحدّث عن خروق العدو وعبثه بالمواثيق والتفاهمات، وغطرسته التي لم تعد تخفى عن أحد إلا من عمي أن يرى القط قطا.
مع ذلك، ورغم مشاريع التهويد والضم والعربدة بالمسجد، والصحن، ومشاريع التهجير والإبعاد، المقاومة مستمرة بأشكل أخرى مهما استغلظ واستقوى العدو الجبان بقوة كبار داعميه وحافظي أسلابه، فكلمة “الله أكبر” وحدها عادت تخيف.