-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العبرة بالخواتيم

سلطان بركاني
  • 845
  • 0
العبرة بالخواتيم

ما فتئنا نعدّ أيام رمضان ولياليه، حتى ألفينا أنفسنا في آخره نتحدّث عن ليالي العشر المباركة، وعن ليلة القدر المشهودة، ثمّ ها نحن الآن نتحدّث عن السّاعات الأخيرة من ضيفنا العزيز.. مضى شهرنا وانقضت أيامه لكأنها خيال أو سراب، وهكذا هي الأوقات الغالية واللحظات الجميلة في هذه الحياة، تمرّ سريعا لكأنّها تقول لنا: الموعد الجنّة.. رمضان كأنّه زمن من الجنّة، يأتي سريعا ويودّعنا سريعا ولسان حاله يقول: “إلى اللقاء أيها الأحباب؛ موعدنا الجنّة”.

رمضان يتأهّب للرّحيل، وعزاؤنا أنّه قد بقيت منه بقية غالية، مَن أحسن استغلالها بروح خاشعة وعين دامعة، فلعلّه يعوِّض شيئا ممّا فات، وقد كان الصالحون من عباد الله يوصون باستغلال الساعات الأخيرة من رمضان، ففيها تتنزّل الرّحمات، ويمنّ الله بعفوه على المتأخّرين النّادمين، وكان العلماء يقولون: “من لم يحسن استقبال رمضان واستغلاله، فليحسن وداعه، لعلّ الكريم يلحقه بركب الفائزين برمضان”.. و”لأَنْ تأتي متأخّرا خير من ألا تأتي”، و”الأيدي التي تبقى مرفوعة في السّاعات الأخيرة من رمضان، هي أولى الأيدي بالعطاء”.

الساعات الأخيرة من رمضان، ساعات مهمّة وحاسمة؛ يعتق الله فيها من عباده من لا يحصي عددهم إلا هو سبحانه.. وهي فرصة أعظِم بها من فرصة لكلّ عبد أحسّ من نفسه التّفريط في جنب ربّه الكريم، والتّقصير في حقّ رمضان، لِأَنْ يحرّك قلبه ويهزّ روحه، ويبكي بين يدي ربّه ويعتذر من التأخير، ويتمسكن لربّه ويقول: “وعزّتك يا ربّ لن أترك بابك ولن أيأس من رحمتك وعفوك أبدا، فأنا المذنب المسكين الذي غلبته نفسه، أنا فقيرك، أنا مسكينك، ليس لي غيرك، ولن أسعى إلى غيرك؛ ارض عني؛ فإن لم ترض فاعف عني”.

العبرة ليست بالبدايات، إنّما بالخواتيم، ورُبّ عبد يجتهد في أوّل رمضان وفي أوسطه، ثمّ يفتُر عزمه في آخره، يُرخي يده عن مصحفه، ويكسل عن صلاة التراويح، فلا يصلّي منها مع الإمام غير ركعتين أو أربع، ويثقل لسانه عن الدّعاء، ويفقد قلبه في نهاية المطاف، ويترك زرعه في وقت الحصاد، وربّما يخسر رمضان، ويرحل الشّهر شاهدا عليه!

وفي المقابل قد يبدأ العبد رمضان متثاقلا، يغلب نفسه وتغلبه، ثمّ في آخره يحسّ بالتفريط والتقصير، فيحزم أمره ويشدّ عزمه، ويتعرّض لرحمة ربّه نادما على تقصيره، فيتداركه الله برحمته.. وأحسن عباد الله حالا، من يجتهد في الأوّل ويزيد في الثاني، ويزداد اجتهادا في الأواخر، وكلّه أمل أن يكون رمضان شاهدا له عند الله، يثني عليه خيرا عند ربّه.

ألا فانتبه أخي المؤمن، وأحسن وداع شهرك، شُدّ من عزمك وانصب لربّك، وأطل سجودك وابتهل لمولاك وادعه وابك بين يديه، ولا يفتر لسانك عن تلاوة القرآن وعن الاستغفار والتسبيح، إلى آخر ساعة من رمضان، بل إلى آخر ساعة من عمرك.

الساعات الأخيرة هي ساعات دعاء وندم واستغفار، وقد كان الصالحون من عباد الله يختتمون أعمالهم كلّها بالاستغفار لعلّ الله يتجاوز عن تقصيرهم فيها. يقول الإمام ابن رجب –رحمه الله-: “وكانوا مع اجتهادهم في الصحة في الأعمال الصالحة، يجددون التوبة والاستغفار عند الموت ويختمون أعمالهم بالاستغفار وكلمة التوحيد”.

هذا – مثلا- صحابيّ رسول الله –صلّى عليه وسلّم- أبو هريرة –رضي الله عنـه- كان يقول: “الْغِيبَةُ تَخْرِقُ الصَّوْمَ، وَالِاسْتِغْفَارُ يُرَقِّعُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَجِيءَ غَدًا بِصَوْمِهِ مُرَقَّعًا فَلْيَفْعَلْ”، وهذا الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كتب إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر، وكان ممّا ورد في كتابه: “قولوا كما قال أبوكم آدم (عليه السلام): ((رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ))، وقولوا كما قال نوح (عليه السلام): ((وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِين))، وقولوا كما قال إبراهيم (عليه السلام): ((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ))، وقولوا كما قال موسى (عليه السلام): ((رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي))، وقولوا كما قال ذو النون (عليه السلام): ((لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِين))”.

كان الصّالحون من عباد الله يحرصون على أداء العبادات على أكمل وجه ممكن، يُخلصونها لله ويخشعون فيها ويحافظون على أركانها وفرائضها وسننها ومستحبّاتها، ومع ذلك هم خائفون ألا يتقبّل الله منهم، حالهم كما وصفهم الله: ((يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُون))، قلوبهم وجلة ألا يتقبّل الله منهم، وأن يردّ عليهم أعمالهم، لذلك تراهم متواضعين خاضعين لربّهم بعد كلّ عمل، لأنّهم يعلمون أنّ العبرة ليست بإتمام العبادة، إنّما بقبولها عند الله، فهذا –مثلا- أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي اللـه عنه- كان يقول: “كونوا لقبول العمل أشد اهتماما منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله -عز وجل- يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}؟”، وهذا ابنِ عمر –رضي اللـه عنه- يقول: “لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ اللَّهَ تَقَبَّلَ مِنِّي سَجْدَةً وَاحِدَةً أَوْ صَدَقَةَ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ غَائِبٌ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنَ الْمَوْتِ، أَتَدْرِون مِمَّنْ يَتَقَبَّلُ اللَّهُ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ”.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!