-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

العشر الأواخر.. وليلة العمر

سلطان بركاني
  • 426
  • 0
العشر الأواخر.. وليلة العمر

انتظرناه.. استقبلناه وفرحنا بقدومه، ولسان حال كثير منّا: “مرحبا برمضان، مرحبا بمطهّرنا من الذّنوب”.. ككلّ عام، توالت أيامه وتعاقبت لياليه في سرعة عجيبة، حتى وجدنا أنفسنا نودّع عشره الأولى، ثمّ نصفه الأوّل، ثمّ ها نحن قد ودّعنا مغرب يوم الخميس الماضي العشر الثانية واستقبلنا العشر الأواخر.. في كلّ عام تطرق قلوبَنا هذه الموعظة المؤثّرة في سرعة انقضاء أيام رمضان، ونقف على الحكمة الجليلة في قول الله عن هذه الأيام إنّها معدودات…

أيام تذكّرنا بأعمارنا التي تتوالى سنواتها سريعا لتقرّبنا من الموعد المسطور والمصير المحتوم، وعند الموعد سترتفع الغشاوة عن قلوبنا وندرك أنّنا كنّا –حقيقة- في دنيا الغرور، وأنّ مكوثنا فيها كان قليلا لو كنّا نعلم ونتفكّر: ((يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا))، ((قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُون)).

صدق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب –رضي الله عنه- حينما قال: “النّاس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا”.. نظنّ أنّ أعمارنا طويلة وقد بقي منها الكثير، ونستبعد وقت الرّحيل، فنهلكُ أنفسنا بالأماني وندسّيها بالتسويف وتأخير التوبة والاستقامة، حتى نفاجأ بأنّ الموت بدأ يرسل رسله ويبعث نذره، شيب وأمراض وأسقام وأصدقاء يرحلون تباعا، فننظر وراءنا فندرك أنّنا أفنينا أعمارنا في اللهو واللغو والغفلة والتفريط، وفي خوض المعارك التافهة لأجل حظوظ حقيرة من هذه الدّنيا.. عندما يأتينا الموت يشعر الواحد منّا أنّه كان في حلم قصير، وها هو يستيقظ فجأة وكلّه ندم على طول النّوم وعلى ما ضيّع من أعمال وواجبات.. عندما نستيقظ سنندم أشدّ النّدم على كلّ يوم وكلّ دقيقة وكلّ لحظة أضعناها في خوض المعارك التافهة، في منافسة الآخرين في التفاهات، في إضمار الحقد لعباد الله، في تحريك الألسن بغيبة المسلمين، في مخاصمة هذا وذاك لأجل حظوظ تافهة لا تستحقّ.

رحلت العشر الثانية من رمضان، وحلّت بعدها العشر الأواخر، عشر لياليها هي أفضل ليالي العام، وأفضل ليالي العمر، وهي فرصة لكلّ عبد مؤمن أحسّ في نفسه بالتقصير والتفريط في حقّ رمضان، لا بل في حقّ ربّه الكريم في شهر الاجتهاد، فرصة لإظهار الخضوع والتذلّل والافتقار لله، وإذابة الغشاوة والران عن القلوب القاسية. فرصة لكلّ عبد أن يشكوَ إلى الله نفسه الأمّارة بالسّوء. فرصة لإجابة الدعوات ونيل الرغبات وتحقيق الأمنيات، ومغفرة الذّنوب والعتق من النّار  والفوز بعفو العفوّ الغفّار.

ليال بينها ليلة هي ليلة العمر، كان النبيّ –صلّى الله وآله وسلّم- يبشّر بها أصحابه في أوّل رمضان، فيقول: “إن هذا الشهر قد حضركم، وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حرمها فقد حرم الخير كله، ولا يحرم خيرها إلا محروم” (رواه ابن ماجه).

ليلةُ قدرٍ قدرها عظيم عند الله، ((إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ))، تكتب فيها مقادير الخلائق، ولعلّ الله يطّلع على عبد من عباده في تلك الليلة قائما خاشعا متذللا فيكتب له رضوانه فلا يسخط عليه أبدا، ويكتب له سعادة الدنيا والآخرة، ويعفو عنه ويعتق رقبته من النّار، ويقول: “اذهب عبدي فقد غفرت لك”، “أشهدكم يا ملائكتي أنّي قد رضيت عن عبدي فلان”، كلمات لا يسمعها العبد بأذنه، لكنّه يجد أثرها في قلبه وروحه، وفي جوارحه؛ يمتلئ قلبه بحبّ مولاه والأنس بذكره والشّوق للقائه، وتتحرّك جوارحه لإرضاء مولاه سبحانه.. ليلة مباركة تنزل فيها البركات والخيرات، وتنزل فيها الملائكة حتى يكون عددها في الأرض أكثر من عدد الحصى، تبارك اجتهاد المجتهدين وتستغفر لعباد الله القائمين الذّاكرين المستغفرين.. ليلةٌ العمل فيها يفضُل العمل في ألف شهر أي أكثر من 83 سنة، في وسع العبد أن يعيش عمرا كاملا في تلك الليلة المباركة.. نعم عمر كامل من القيام والتذلّل والخشوع والخضوع والدّعاء، في ليلة واحدة، هي ليلة القدر.

قضى الله –جلّ وعلا- أن يحجب هذه الليلة في العشر الأواخر من رمضان، حتى يجتهد عباده المؤمنون في العشر كلّها ويزدادوا اجتهادا في الوتر منها، ويضاعفوا اجتهادهم في ليالي الرّجاء، مثل ليلة السابع والعشرين، وليلة الوتر التي توافق ليلة الجمعة.

ليلة الحادي والعشرين من رمضان، وافقت ليلة الجمعة هذا اعام، ولعلّ قليلا من عباد الله من انتبهوا لذلك، وخفقت قلوبهم به، كثير من المسلمين مرّت عليهم ساعات تلك الليلة كما مرّت عليهم ساعات كلّ الليالي التي مضت، حتى كثير من رواد بيوت الله، بدؤوا السّاعات الأولى من ليلة الحادي والعشرين بحديث الدّنيا في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، اجتمعوا في بيوت الله على القيل والقال ورفعوا أصواتهم بلغوٍ يُثقل موازين سيئاتهم وهم يعيشون ساعات ليلة ربّما تكون ليلة القدر.. الملائكة من حولهم بعدد الحصى والعفوّ الكريم –سبحانه- ينظر إلى عباده ليرى ذلّهم وانكسارهم وخضوعهم وبكاءهم، وأولئك العباد في غفلتهم ساهون.

هنيئا لمن اجتهد ليلة الجمعة، هنيئا له إن كانت ليلة القدر، وحتى لو لم تكن ليلة القدر، فهنيئا له أنّه افتتح العشر الأواخر بقلب حاضر ولسان ذاكر يرجو مولاه ويلحّ عليه في الدّعاء أن يبلّغه ما تمنّاه.

قد لا تكون ليلة الجمعة الماضية هي ليلة القدر، وقد تكون مخبأة في الليالي التي بقيت، فما أحرانا أن نقول لأنفسنا: كفى والله كفى، كفى غفلة وحرمانا، كفى إعراضا في موسم الهبات والعطايا، ربّما يكون رمضان الأخير، وقد تكون العشر الأخيرة لي في هذه الدّنيا، ربّما تكون فرصتي الأخيرة لأدرك ليلة القدر فتغفر ذنوبي وتعتق رقبتي ويعفو عنّي ربّي.. عشت أربعين أو خمسين أو سبعين سنة، ربّما لم أوفّق فيها لإدراك ليلة القدر، وقد آن الأوان لأبحث عنها وأبحث عن قلبي ونفسي فيها، وأشكو حالي وقسوة قلبي وإعراض نفسي إلى الله، لعلّ الله يأذن بعتق نفسي من أسر الهوى، وعتق قلبي من أسر الدّنيا، ويخرج الدّنيا الدنية من شغاف قلبي، ويملأه بحبّه والرغبة فيما عنده.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!