العلمانيون والإسلاميون.. في الوعي الزائف سواء!
تعاني الأمة العربية من عملية فصل تامة للفرد عن تاريخه القريب، فما بالك بالتاريخ البعيد؟!، ويبدو الشعور بهذا الانقطاع جليا بين أجيال معاصرة وأخرى ماضية،
فعلى صعيد الممارسة الجزائرية مثلا، نقل إلينا كتّاب وإعلاميون كثر مشاهد حياتية عن كثير من الشباب العاجز اليوم عن معرفة تاريخه الوطني القريب المتعلق بالعمل الوطني، وثورة التحرير المجيدة، والإنجازات التي تحققت بعد الاستقلال، وعلى الصعيد العربي نجد التجربة المصرية ماثلة أمامنا، فقد لاحظ كثير من الباحثين جهل الشباب المصري بأهمية الثورة المصرية التي حوّلت البلاد من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، وينطبق هذا بنسب مختلفة على باقي الدول العربية الأخرى.
وعلى النقيض من القول السابق، نرى الشباب العربي، عموما، آخذ في اكتساب ثقافة تاريخية تتعلق بالآخر، وهذا يعني تغيرا في الثوابت، فما السبب في هذا الفراغ المعرفي؟ وهل من علاقة بينه وبين الصراع المحتدم بين الإسلاميين والعلمانيين؟
بداية، علينا تبرئة الجيل الجديد مما هو فيه، لأن الحالة الراهنة هي نتاج تجربة جماعية تتصف بالسلبية ممتدة في الزمن البعيد، موصولة بحاضرنا وفاعلة فيه.. وهي بالأساس نتيجة لطرح أبناء الأمة ـ الإسلاميون والعلمانيون ـ لمشاريعهم بشكل ارتجالي، بحيث لم تعد القوة المعرفية الضرورية.
يهمني هنا أن أبدأ بالحديث عن الإسلاميين، أومن يسمون أنفسهم بدعاة المشروع الإسلامي، فهؤلاء كتاباتهم هزيلة مقارنة بكتابات العلمانيين، التي يشعر القاريء أنها تخاطب عقله، وتتغلغل فيه، حتى تتمكن من تحويل الباطل إلى حق، بينما تغرق الكتابات الإسلامية ـ إن جاز التعبيرـ في السطحية حتى أنها تعجز عن الصمود أمام أي ريح، والسبب في نظري راجع إلى عدم قراءتنا لتراثنا بوعي وتبصّر.
تعطيل الحدود
لنضرب الأمثال لندلّل على صحة ما أذهب إليه، مثلا هناك من يقول: أنه يمكننا أن نعطّل تطبيق الحدود، لأن سيّدنا “عمر بن الخطاب” لم يقطع يد السارق في عام الرمادة، وهذا المثال يرتكز عليه العلمانيون بهدف الوصول إلى التعميم، ومع ذلك يصمت الإسلاميون ولا يقدّمون جوابا حول التساؤلات التي يثيرها العقل المسلم، مع أن العودة لقراءة ميراثنا التاريخي، ومعرفة الأحداث والوقائع، يقدّمان رِؤية أخرى يعوّل عليها، لنكتشف بعدها أن الحدود لم تعطل في عهد الخليفة “عمر بن الخطاب” كما سنرى لاحقا.
قياسا على المثال السابق، يمكن القول: لقد جنّد العلمانيون أقلامهم من أجل تعميم أفكارهم، ونجحوا في عدة مواقع، لأن القاريء العربي البسيط لا يملك من أدوات البحث والتحليل ما يؤهّله لاتّخاذ موقف من كتاباتهم، لكن للأسف نجد أيضاً أن النّخبة من الطّرف الإسلامي كتابتها في الغالب الأعم سطحية، كما ذكرت في البداية، تنهزم أمام أي فكرة ملك صاحبها أدوات التحليل الأيديولوجي، مبعدة ومقصية لأي رأي يخالفها.
السلفي.. والتشريع التونسي
على الصعيد العملي يتخذ بعض الكتاب الإسلاميين وسائل تعبير بدائية بمعايير العصر الحالي عند ردهم عن أهل اليسار، فعلى سبيل المثال، ثارت ثائرة البعض في مصر أيام أن طرح الدكتور نصر حامد أبو زيد كتابه رؤيته، وطالبوا بتكفيره، ورفعوا دعوى قضائية لتطليقه من زوجه، التي ظلت متمسكة بزواجها منه، وفي هذه الخطوة ذنب في حق المرأة لاعتبارها متاعاً يعاقب الشخص بحرمانه منه، والأجدر لو تم اعتبارها شريكة له لإعلانها في الصحافة أنها مؤيدة لكل كلمة وفكرة طرحها.
على العموم موضوعي اليوم ليس مناقشة أفكار”نصر حامد أبو زيد” بقدر ما أريد أن أؤسس لموقف فكري سيجعل موقفنا من قضايا بعينها يتغيّر بشكل جذري، فبالعودة إلى فصل من كتابه “دوائر الخوف.. قراءة في خطاب المرأة، المعنيون بالمرأة والأحوال الشخصية، نموذج الخطاب التشريعي التونسي، يقول أبو زيد ما يلي:
”.. و أياً كانت الحجج والأسانيد التي يمكن للمشرّع التونسي أن يقدّمها، سيجد السلفي مجالاً للطعن فيها، ويكفي هنا أن يثير مبدأ “لا اجتهاد فيما فيه نص” فينتهي النقاش ويمتليء السلفي زهواً بلذة الانتصار، ولن يفت في عضد السلفي هنا، أن نقول له: ولكن عمر بن الخطاب تخطى حكم النص في عام الرمادة، ولم يقطع يدي العبدين اللذين سرقا سيّدهما، بل وتهدد السيّد بأن يقطع يده هو إن عادا للسرقة، فعل عمر بن الخطاب ذلك والنص الموجود قطعي الدلالة، فكيف أباح لنفسه الاجتهاد؟، وغاية ما يمكن للسلفي أن يردّ به أن عمراً صحابي جليل، كان الوحي ينزل موافقاً لرأيه، وأن اجتهاده اعتمد ـ ولابد ـ على قرائن وشواهد تجعل الحادثة غير واقعة تحت حكم النص”.
.. لا تقطع يد العبد
هنا نتوقف للقول: أن هذه الحادثة غير واقعة تحت النص، ولكن كيف ذلك؟.. يجيبنا على هذا السؤال أبو زيد نفسه، عندما يورد الحادثة، لكن دون قصد منه، وعلينا أن نضع خط تحت كلمة العبدين، وخط تحت كلمة سيّد، لنجد أنفسنا قد خرجنا إلى مجال آخر يتمثل في وجود قوانين خاصة بالعبيد، فعقوبة العبد هي نصف عقوبة الحر، فإذا سرق الحر قطعت يده، وإذا سرق العبد لا تقطع يده، فشريعة الإسلام في هذا الموضوع خالفت كل الشرائع التي سبقتها، معتمدة على مفهوم الحرية، وآخذة به، ومكيّفة لكثير من أحكامها على أساسه، ولذا لا يقع قانوناً ،أي شرعاً، حكم القطع على هذين العبدين السارقين، وربما تحمل سيّدهما الحر تبعة سلوك عبديه.
نعم لقد خالف قانون العبيد في الحكم الإسلامي قوانين الرومان وغيرهم، ولو اطلعنا على قانون”حمو رابي”،مثلا، لوجدنا أن عقوبة العبد فيه قاسية لا تتناسب مع جرمه، وعقوبة الحر مخفّفة مقارنة بالعبد، لكن للأسف لا نجد من ينفي أن عمر بن الخطاب لم يعطل تطبيق حد الله، ولقد عجبت، عندما شاهدت على إحدى القنوات الفضائية العربية المذيع يسأل أحد شيوخ الأزهر البارزين عن هذه الواقعة بالذات، فردّ الشيخ الأزهري: “أن عمرلا يمكنه أن يعطل شريعة الله، ولا يملك هو أو غيره فعل ذلك”، مما يجعل المشاهد يكاد يجزم بتكذيب هذه الواقعة مع شهرتها، مع أن النظر في الكتب يقدم جوابا شافياً كافياً.
النسائي… وجهل باحثة علمانية
وفي نقاش دار بيني وبين المفكر الدكتور”رضوان السيد” حول هذه النقطة، وبعد أن أوضحت وجهة نظري، لم يزد عن القول: “ربما هناك واقعتان متشابهتان، هذه التي ذكرها أبوزيد، وأخرى غيرها”، في إيحاء إلى أن هناك رجلاً حراً آخر سرق في عام الرمادة، لكن سيدنا عمر لم يقطع يده.
وتظل المسألة مفتوحة تتطلب منا البحث والتقصي، ليس لكي نبرر شيئاً أو ننفي آخر، إنما فقط لكي ننير طريقنا، إذ لا شك أن هذا النور سيجعل الجميع عالماً أين يضع قدمه، فلا تزل، أو تهوى.
وعلى الجانب الآخر، نجد العلمانيين يتعاملون بمستوى عال من القدرة على الاطلاع على كتب الآخرين والاقتباس منها، وذكر أفكارها لدعم مواقفهم، مع أننا نجدهم يتعاملون مع كتب التراث معاملة سطحية مقصودة، تكشف أحيانا عن الغباء، فمثلا تنسب إحدى الباحثات الأكاديميات الفقيه النسائي إلى النساء، بدل موطنه “نسا”، وتدلّل أخرى على أن المجتمع العربي الإسلامي كان مجتمعاً “أميسياً” لمجرد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل بزوجته عائشة في بيت والدها، ولا يسعني سوى وصف الكل بالإسفاف، ونتساءل: لماذا يتخلّى العلمانيون عن أدوات البحث والتحليل، ويقفون على قدم المساواة مع أصحاب الاتجاه الإسلامي، عندما يتعلق الأمر بتراثنا ،الذي كثيراً ما يلجأون إليه من خلال أقلام المستشرقين، ويقرأونه بلغاتهم الأعجمية.