العيد الكئيب

يعيش الإنسان في هذه الحياة الدنيا في كبد، لأن الدنيا أصلا “طبعت على كدر”، ومن ظنها “صفوا بلا كدر”، فقد جهل بعض حكمة البارئ المصوّر في خلق الإنسان وجعل بعضه فتنة لبعض، فيتميز الخبيث من الطيب.
وتكرّم الله -عزّ وجل- علينا -نحن المسلمين- فجعل لنا عيدين دينيين نكسّر بهما مألوفنا طعاما ولباسا وسلوكا، لننسى – أو نتناسى- ما كابدناه في أيامنا العادية، ونجدّد ما وهن من علائقنا ببعضنا من أواصر مع ذوي قربانا ومع المسلمين عموما، فهم إخوة في الدين، فيشعر المسلم بغيض من الفرح يغمر جوانحه ويغمر نفسه، فيتجلى ذلك على محياه، ويفتر ثغره عن إبتسامة مشرقة، وينطلق لسانه بكلمات جميلة وعبارات لطيفة.
إن أولى الناس باستشعار معاني العيد وأبعاده هم العلماء، ورّاث الأنبياء، الذين يبلغون رسالة إلى الناس، ويحثونهم عليها، ويرغبونهم فيها.
ولكن أحد أعلم علماء المسلمين وأحكم حكمائهم وهو الإمام محمد البشير الإبراهيمي يخرج عن المألوف في العيد، ويراه “عيدا معتدا”، كالمرأة المعتدة من طلاق أو وفاة بعل: “فلا ألقاه إلا كما يلقى الثائر المثؤور، عابس الوجه، مقطّب الأسرّة، غضبان السرائر، فما أذكر أني لقيته مرة بالتّسهّل والترحيب، وما أذكر أني كتبت عليه كلمة متهلّلة ضاحكة لم يشبها شوهة التصنع، وما أذكر أني سلكت في استقباله هذا الفجّ الذي يسلكه الخليّون في التهنئة وتصوير بغير صورته، وتملّقه ليعود عليهم بالمجد الذي أضاعوه…”. (الآثار3/481).
إن ما دفع الإمام إلى هذا العبوس والتقطيب، بدل الحبور والترحيب هو ما آلت إليه حال المسلمين التي لا تسرّ الناظرين، ولكنها تفرح الشّامتين، وقد حلل وشرّح الإمام هذه الحال في مقالين يصدق فيهما قول سعد زغلول في بعض ما كتب مصطفى صادق الرافعي: “كأنه تنزيل من التنزيل”.
وقد نشر الإمام المقالين في الجريدة المجاهدة “البصائر” في العددين 12 و163 الصادرين في 27-10-1947 و16-7-1951، وقد أنهى أوّلهما بفقرة حكيمة تدل على فقهه في الإسلام وتدبره للقرآن الكريم، وفهمه لسنن الحياة التي لا تتبدل ولا تتغيّر ولا تتحوّل، قال الإمام مخاطبا المسلمين في مشارقهم ومغاربهم: “أيها المسلمون عيدكم مبارك إذا أردتم، سعيد إذا استعددتم، لا تظنوا أن الدعاء وحده يردّ الاعتداء، إن مادة دعا يدعو (من الدعاء) لا تنسخ مادة عدا يعدو (من العدوان)، وإنما ينسخها أعدّ يعدّ، واستعدّ يستعد، فأعدّوا واستعدوا تزدهر أعيادكم وتظهر أمجادكم”، (آثار الإبراهيمي. 3/470).
إن الإمام الإبراهيمي ينسج على منوال القرآن، لأنه قرآني الروح والتعبير والمقاصد، حيث جاء في القرآن أمر الله للمسلمين: “وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة”، وقد وصف الشيخ إبراهيم كعباش هذه الآية الكريمة في كتابه: “نفحات الرحمن في رياض القرآن”، بأنها “وصيّة إستراتيجية”، ولو قال شيخنا “إنها أمر إستراتيجي” لكان أبلغ، ولا نيأس من روح الله، ولا نقنط من رحمته، وعلينا بالأمل المقرون بالعمل.