الفتوى الإستراتيجية… ضرورة
هيئة وطنية، أو أكاديمية وطنية للفتوى أو أيّ مؤسسة تهتم بهذا الأمر أصبحت اليوم ضرورة ملحة لا تحتمل التأجيل، ليس لتنوير وتوجيه الرأي العام والأفراد في المسائل الشرعية التي تعترض حياتهم اليومية فحسب، بل لأن وجود مثل هذه المؤسسة له علاقة مباشرة بالأمن القومي والمصالح العليا للبلاد.
عندما تتعدى الفتوى المسائل الشخصية إلى قضايا من شأنها أن تُثير الشكوك حول ماهية الإسلام وجوهره المتسامح، أو تُحدِث انقساما في الرأي العام حول مسألتي حرية التعبير والمعتقد، أو تَدفع إلى شَحنه باتجاه الانتقام أو الثأر، تتحوّل بالفعل إلى سلاح، ينبغي ألا تبقى بين أيدي أي كان لكي يستخدمها حسب اجتهاده إن كان صائبا أو مخطئا.
لقد أصبحنا نعيش اليوم في مجتمعات مركّبة، القضايا فيها متشعبة، والسياسات متعددة، والمخططات الخفية التي تعدها المخابر أكثر من العلنية، ولا توجد ضجة إعلامية ليس خلفها غاياتٌ محددة، بل كل شيء مُراقَب ومدروس ومُتابع من قبل ملايين المختصين المنتشرين في كل مكان. لا يوجد شيءٌ اسمه فايسبوك حرّ، أو انترنت محايدة، أو قضية تنشأ عفويا وتُصبح حدثا فقط، لأن مجموعة من الشبان أثاروها..
العالم اليوم يهيمن عليه المتحكمون في التكنولوجيات الجديدة للإعلام، يلعب فيه المتلاعبون بالعقول والعواطف دورا أكبر مما تلعبه الحروب الاقتصادية أو العسكرية.. ولا مجال لنا لفهمه والتعاطي معه إلا من خلال عمل جماعي مهيكَل بطريقة جيدة عابرة للتخصصات؛ يتابع كل صغيرة وكبيرة برويّة ومن غير اندفاع.. أي لا بديلَ لدينا عن عمل مؤسساتي جماعي وحقيقي إذا أردنا أن لا نقع في المحظور.
عندما يصبح الأمر هكذا لن نصدر فتوى بشأن روائي أو مثقف قبل أن يقرأ أدباء ومثقفون روايته، ويُبدي السياسيون رأيهم في توقيت الصدور، ويتدخل إستراتيجيون ليقولوا لنا ما إذا لم يكن عمله طُعما من ورائه مخطط يجعلك خاسرا في كل الحالات مع أو ضد أو محايدا، ويتدبره علماء الشريعة تدقيقا وتمحيصا، ويقول المؤرخون رأيهم في ما إذا كان لمثله سابقة، ويحلل علماء النفس شخصية فاعله لعله مريضٌ يُرفع عنه القلم، أو باحثٌ عن شهرة ينبغي ألا نلتفت إليه، ويتحدث الاقتصاديون وعلماء الاجتماع، وخبراء المعلوماتية كل في مجاله، ليُصدِر الجميع أخيرا الفتوى المتطابقة مع الإسلام والتي تخدم المسلمين…
وعند ذاك فقط نكون أمام فتوى إستراتيجية لا فتوى أحادية يَتَحمّل صاحبها، أو تُحمِّله، أكثر مما يطيق.