الفخامة والرعاية السامية!

انتشرت في بداية الألفية الجديدة ممارساتٌ سياسية وأخلاقية، مثل الفيروسات، في التعاملات الرسمية بالجزائر، وانتقلت من القمة إلى القاعدة، وتحوّرت كما تتحوّر الفيروسات مع الزمن، إلى درجة أن كلمة “الفخامة” دخلت قاموس المعاملات، وما كان يشرحها أستاذ العربية إلا بين الحين والآخر، على أن التفخيم هو تعظيم للرجل وتبجيله وكفى الله أهل اللغة شرّ التفسير والشرح، وصارت “الرعاية السامية لفخامته” تصحب حتى مباريات الكرة في الأحياء الشعبية وعروض الأزياء في دور الثقافة ومسابقات طهي الكسكس والشربة وما شابهها، والمعني بالتفخيم والرعاية لا يدري.
ولأن الفيروس الأخلاقي ينتشر أكثر من كورونا وأخواتها، فإن هذه المعاملات انتقلت إلى الجماعات المحلية وحتى في الإدارات ومختلف الشركات، في ممارسةٍ لم يعرفها الجزائريون في تاريخهم، فكان الأمير عبد القادر يسير في الأسواق ويؤدي فريضة الحج مشيا على الأقدام ويحارب كجندي مع المجاهدين، وعاش بن باديس خادما للعلم يتكفل بإيواء وإطعام تلامذته، واستكثر العربي بن مهيدي أن تبقى الثورة بين مفجِّريها، فمنح فخرها لعامّة الشعب عندما رماها بينهم، وما سمينا أو لقّب أحدُهم نفسه بـ”الفخامة” و”السمو”، إلى أن حلّت سنوات الضياع والتيهان فاندست هذه الألقاب والأفعال مثل السمّ في الجزائر.
لو توقف الأمر في القمة، حيث تفعل السياسة بالناس الأفاعيل فقط، لهان الأمر، وكان بالإمكان ضرب “نسره” بحجر واحد، ولكن بعض الناس نقلوا هذا السلوك إلى مؤسسات عامة وخاصة، حتى أن الناس جعلوا كلمة “شيتة” ضمن المفردات الجديدة التي يستعملونها لوصف هذا التملّق المبالغ فيه الذي قد يجعل متلقيه يصدِّق بأنه معصومٌ وبأنه لا يُري أتباعه أو من يعملون تحت إمرته، إلا ما يرى. وبإمكان أيِّ عامل بسيط في دواوين الولايات الكثيرة في الجزائر أن يعدّ نفرا لا وظيفة لهم في عملهم الذي لا عمل ولا جهد فيه، سوى مهنة التملق واختراع الأوصاف “الفخمة” لكل وال جديد يحل بالولاية لأجل معالجة مرضها، فيزيدها بممارساتهم وَهَنا على وَهَن، فيضيع التشخيص والعلاج في مستنقع التفخيم.
التفاتة رئاسة الجمهورية إلى هذه الآفة بعد حادثة جامعة باتنة بالرفض القاطع، قد تقلّم أظافر المتشبِّثين بوباء التملّق، على أمل أن ينظر بقية المسؤولين إلى الذين يحيطون بهم، من الذين يحوّلون الزمهرير إلى ربيع والبشاعة إلى حُسن وجمال والفقر إلى ثراء، بجرّة لسان، لأن قول الحقيقة وحدها هي التي توصلنا إلى المبتغى، والعمل وحده يحقق الأماني.
يقول المثل الياباني: “إنّ بين الخيانة والتملق علاقات دم”، ويقول المثل الألماني: “يبدو أن العصر الحديث يحتاج إلى كمية زائدة من النفاق كي يرضى الناس وهذا أمرٌ مؤسف”، ويقول المثل الجزائري: “اسمع كلام اللي يبكيك وما تسمعش كلام اللي يضحكك”، وفي كل الأحوال فإن التملق هو فيروسٌ خطير، حان موعد أخذ لقاحات لتفاديه من أجل عقل سليم في جسم دولة سليمة.