الفرنسيون سيهزمون أنفسهم

هناك معارك في الحياة، تنتصر فيها من دون أن تطلق رصاصة واحدة، ويخسرها خصمك، بعد أن يكون قد استنفد كل سلاحه، ليكتشف أن كل الرصاصات قد استقرّت في صدره.
بلغنا الآن، في الحرب الفرنسية الجزائرية الباردة، مرحلة بقاء محارب واحد، بينما يخلد الثاني للراحة، وليس للاستسلام، تاركا خصمه يحارب نفسه، كما هي حال الطرف الفرنسي، الذي أعلن الحرب، ولم يعرف كيف يوقفها، ولم يتمكن من التحكم فيها، حتى التهمت شرارتها كل الطبقة السياسية التي صار هدفها الوحيد هو كيفية الخروج منها بأقل الأضرار فقط.
فرنسا، اختارت التوقيت الخطأ لإعلان الحرب، والرفيق الخطأ والسلاح الخطأ والمكان الخطأ، فجاء اعترافها بـ”مغربية” الصحراء أتعس من تغريدة ترامب، فلا اعترافها قدّم للرفيق الخطإ خطوة واحدة، ولا الرفيق ردّ “الجميل” القبيح، كما أن توقيت الحرب الباردة تزامن مع أزمة سياسية فرنسية داخلية خانقة، كان واضحا فيها أن الرئيس الفرنسي قد فقد البوصلة، وتاه مع مركبه بين مدّ اليمين وجزر اليسار، وحتى سلاح الثقافة والاقتصاد الذي كانت تشهره فرنسا، انتهت مدة صلاحيته منذ خسارتها القاسية في بلاد الساحل، بعد أن أصبحت فرنسا نفسها تبحث عن نموذج تقتدي به، فكيف لها أن تحسب نفسها أنموذجا في عالم تغيّر بالكامل؟
وفي كل خطوة هرولة نحو دخان “صنصال”، تفقد فرنسا مزيدا من المزايا والبيادق التي كانت تحرِّكها على الرقعة الجزائرية، ولن يطول الوقت حتى تكون القطيعة النهائية التي لا رجعة فيها قد حدثت بين فرنسا والجزائر، إن لم تكن قد حدثت فعلا.
مشكلة فرنسا، في السنوات الأخيرة، افتقادها قادة دبلوماسيين، أو على الأقل يعيشون الواقع المتغير في غير صالحهم، فكلما اندلعت مشكلة فيها، أو حواليها، وحاولوا معالجتها، إلا وزادوها بنزينا. ومن هايتي إلى تشاد، مرورا ببوركينا فاسو ومالي والنيجر، يمكن القول إن ما أنجزه رؤساء فرنسا السابقون، منذ قرابة قرنين، من نفوذ في القارة الإفريقية، تلاشى بفعل أخطاء الساسة الجدد، وعلى رأسهم إيمانويل ماكرون، الذي أصبح مثل الغريق كلما حاول التشبُّث بأطراف زورقه، اقترب من الأعماق.
معروف تاريخيا، أن فرنسا وزّعت الاستقلال في أظرفة على العديد من البلدان، من أجل أن تحتفظ بالصيد الأكبر الذي يتمثل في بلاد الجزائر، فلا هي أمسكت بالبلاد التي منحتها الاستقلال ومنها بلاد مراكش، ولا هي تمكّنت من الصيد الأكبر، وقد تكون قد استصغرت سقوطها الحرّ في بلاد الساحل الإفريقي، وركّزت على ألا تضيع الجزائر، على الأقل كصديق، فلا هي تنفَّست في الساحل، ولا هي تمكّنت من صحراء الجزائر، وكما حملت ذات 1962 حقائبها وغادرت جسديا الجزائر وبلاد القارة الإفريقية إلى الأبد، فإنها ستحمل أيضا ما تبقى من حقائب وتغادر روحيا واقتصاديا وثقافيا الجزائر وبلاد القارة الإفريقية.. إلى الأبد.