-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

الفساد الذي لا يحاربه أحد

حبيب راشدين
  • 1897
  • 9
الفساد الذي لا يحاربه أحد

الفاتح من شهر أوت مرّ عليه الإعلام العالمي مرور الكرام، مع أنه أرَّخ لتسجيل رقم قياسي آخر في لوح إفلاس المدنية الحديثة، القائمة على الاستهلاك المفرط لموارد الطبيعة، حيث استهلك سكان الأرض في سبعة أشهر حصتهم السنوية من كثير من الموارد غير القابلة للتجديد: بدءا بالمياه والموارد الغابية ومصادر الطاقة الاحفورية وانتهاء بكثير من الموارد المنجمية التي تقوم عليها الصناعة العالمية، وسوف نقترض ابتداء من هذا اليوم وحتى نهاية السنة من حصة العام القادم، التي قد نستهلكها العام المقبل قبل نهاية شهر جويلية، ويتوقع الخبراء أنه في بحر عشر سنوات قادمة سوف نحتاج إلى ثروة أرضين لإعالة بشرية تستهلك بإفراط، وتعيش على الدين الذي بلغ هذه السنة 226 ألف مليار دولار، أو ما يعادل 324 % حجم الدخل العالمي الخام.
الإفلاس كما نرى حقيقة ثابتة، ليس لها أفُقٌ يبشِّر بوقف نمو الدين العالمي، وقد صار الاعتماد على الدين في إدارة الاقتصاد الأهلي والعالمي هو القاعدة، وفاقت عوائده الربوية أضعاف عوائد الاقتصاد الانتاجي، ويحتل قطاع الخدمات وعلى رأسها الخدمات المصرفية ثلاثة أرباع حجم نشاط البورصات العالمية، وقد التحقت نسبة الاستدانة عند الأفراد بمستوى استدانة المؤسسات والدول، وقد أضيف إليها استهلاكنا لحصص الأجيال القادمة من موارد الطبيعة غير القابلة للتجديد في حلقة مفرغة: نستهلك ـ أفرادا ومؤسسات ودولا ـ فوق دخلنا الحقيقي لإشباع حاجة الاقتصاد الرأسمالي المعوْلم إلى تسويق مزيد من البضائع التي باتت تستهلك الحصة السنوية من الموارد في سبعة أشهر وتضطرنا إلى الاقتراض من حصص السنة القادمة.
مواجهة الآفتين غير واردة بأدوات ومنهج الاقتصاد الرأسمالي القائم على الاستهلاك كمحرِّك للنمو، والذي يزيد من حجم مديونية الأطراف الثلاثة، من جهة الحاجة إلى مصادر التمويل الربوية للإنتاج كما لتمويل الاستهلاك، وقد فتحت العولمة بفتح مزيد من الأسواق آفاقا جديدة لتغذية سرطان الاستهلاك الذي تحول أواسط القرن الماضي ومطلع هذه الألفية إلى سلوك عدمي مستبد متنام، غير قابل للمعالجة إلا بإسقاط النموذج الرأسمالي الليبرالي الرِّبوي المعادي للطبيعة البشرية ولوظيفة الاستخلاف الراشد في الأرض.
قبل عقدين فقط كانت البشرية تتواصل بشكل جيِّد عبر الهاتف الثابت، بينما لا يكاد اليوم بيتٌ في المعمورة يخلو من أربعة أو خمسة هواتف نقالة، تستهلك مواد نادرة غير قابلة للتجديد، وقد فتحت باب إنفاق جديد يشكل أكثر من 30 % من ميزانية الأسرة، ولك أن تقيس على ذلك في مجال استهلاك وسائل النقل، والفرجة والتسلية، ومساحيق ومستحضرات التجميل، التي وإن كانت أضافت بعض الرفاهية في الحياة اليومية، فإنها قد أضافت أعباء جديدة على دخل الفرد وقادته من حيث لا يحتسب إلى الانخراط المفرط في دوامة الاستدانة التي تحمل بدورها كلفة إضافية تستهلك من دخل عمله.
دخول قرابة ثلاثة ملايير من الصينيين والهنود سوق الاستهلاك والإنتاج بوتيرة تقترب من وتيرة الاستهلاك والإنتاج في المجتمعات الغربية سوف يسرِّع بوتيرة هندسية الآفتين: باستهلاك مفرط متنام لموارد طبيعية غير قابلة للتجديد تقودنا في أجل منظور إلى واقع مرعب نستهلك فيه حصة السنة في ثلاثة أشهر، وإلى مضاعفة نسب استهلاك الدين الذي سوف يحوِّل الأفراد والمؤسسات والدول إلى كيانات تستعبدها بلا رحمة فئة قليلة من أرباب المصارف.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
9
  • متأمل

    شكرا استاذنا الكريم على هذا المقال الذي هو من باب " وذكر فإن الذكرى تنفع المومنين" فمتى يتذكر المؤمنون أن عليهم رسالة إلى البشرية جمعاء؟ لكن هب يا استاذ أن كافة الخليقة استفاقت اليوم من مرض هذا القرن الإستهلاكي، فكم سيلزمنا من القرون حتى تستعيد الأرض توازنها المغتصب منذ عقود؟ يقول الكاتب والطيار الفرنسي Antoine de St Exupéry "نحن لا نورث الارض لأبنائنا ،لكن نستلفها منهم " فهل فكرنا برد الديْن؟

  • جمال

    بوركت أستاذ على هذا المقال الرائع ... فقد أثرت قضايا مهمة وخطيرة في الاقتصاد العالمي ، نادرا ما يتم التطرق لها في وسائ الاعلام أو دراستها في الجامعات، بشكل واسع ومهم، طالما أن وسائل الإعلام وصناعة مناهج التعليم في يد أرباب المال أو ما يسمى بالانترناشيونال بانكرز.

  • mahi

    ربما ما تقوله صحيح فرحي الاستهلاك العالمي تنبئ بموجه تسونامي لازمه اقتصاديه خطيره قد لا تبقي ولا تذر والجدير بالذكر هو ان الحرب القائمه علي هذا النموذج الاقتصادي الذي يراد لنا ان يعمم ونحن مرغمون علي الدوران في قوته شئنا ام ابينا فقط هناك بؤر محتشمه لمقاومة هذا الغول القادم من تفكير سلطوي تتحكم فيه حفنه من ارباب المال المدعم بالقوه وبصنع الاوراق الماليه من فئه الدولار بلا رصيد انتاجي فعلي يغطيه ثقه مزيفه لبنك لا وجود له اصلا و لا اصل لها لاحظ ان النموذج اخذ به في بعض البلدان الضعيفه وهذا له دلالته .

  • من المغرب السلام عليكم

    مقال رائع في صلب ما يجب ان نفكر فيه كل يوم
    اي اي نظام جديد للاقتصاد للاستهلاك للانتاج لحياة اكثر ديمومة...
    كل هذا الذي نتكلم عنه اليوم من استهلاك مفرط ومن تبدير ...عنده مصدر واحد الا و هو الشهية المفرطة لكبار رأس المال على اكبر الارباح ...
    ولو وجد نظام يوقف الربح في نقطة معينة و يحوله لاعادة الاستتمار في مشاريع اجتماعية مستدامة لذهب تقريبا اكتر من 50% من المشكلة العالمية
    كيف لبيل كيتس دو نظام ويندوز المحتكر للسوق عالميا ان يظل يجني تماره الى ما لا نهاية كمتال والعديد العديد من الامتلة ...

  • almanzor

    الفراغ الروحي وغياب المعنى الحقيقي للحياة جعل الناس يستهلكون بشراهة و يبحثون عن المتع الرّخيصة من أجل سد هذا الفراغ. يقول أحدهم : الوصية الأولى من وصايا القرن العشرين هي "اخلق كل يوم حاجات جديدة لتستهلك أكثر"

  • كمال

    لهفه العيش على الطريقه الغربيه و الديمقراطيه هذه نتيجتها . عندما تسلم قياده البلدان باسم الديمقراطيه لقاده لصوص و محتالين و جهله يسحرون المواطن بحلو الكلام و كلهم باع نفسه للشركات الكبرى التي تهدف لتحقيق مزيدا من الارباح لابد ان تكون النتيجه الخراب

  • Mohamed-tlm

    La mondialisation disparaîtra quand les influents prendront en considération leurs avenirs biologique(eau-environnement)démographique (taux de naissance de mortalité et l'espérance de vie)et l'extinction de l'énergie qui alimente leurs désire aux développement technologique à l'industrialisation et à l'automatisme.Pour le tiers monde c'est la résistance au chantage nourriture/savoir L'autonomie de gestion peut régresser la destinée flagrantes Et peut dévier la collision entres civilisations en une locomotive envers une Stratégie de dignité qui assure une coalition/débat/raison

  • إنسان

    قال الله تعالى (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
    كما ذكر الله تعالى و ذكرتنا به أستاذنا الكريم الفساد عم كل الأرض و في كل مناحي الحياة.
    فقط في مجال السياحة ترى الهدر و التبذير غير المبرر. فمئات الملايين من السياح يجوبون العالم سنويا عبر ملايين الرحلات الجوية بما يمثله من هدر للموارد الطاقوية و غيرها و تغيير لأنماط الحياة للمجتمعات المحلية. المشكلة أن هذا السائح تجده غالبا لم يزر حتى المدينة المجاورة يقطع كل هذه المسافات فقط من ألف التباهي أو استجابة للضغط الإشهاري.

  • ملاحظ

    شكرا أستاذ على الموضوع المهم جدا......لكن للاسف لم أرى تعليقات دليل على ان الموضوع لم يقرأ من طرف الجمهور المستهلك لكل شيئ ماعدا إستهلاك المعرفة والعلم.
    وقفت هذه الايام امام محل للمواد الغذائية لأحد الاقرباء ولاحضت تهافت الناس كبيرا وصغيرا على كل المواد بشراهة ..وتعجبت وقلت في نفسي : هاؤلائي ليس أناس عاديين بل هم آلات للاستهلاك (des machines pour consommation ).