القاعدة التاريخية.. وتصحيح المفاهيم

عندما تكون لديك رؤية يمكنك أن تتحرك وفق سقف طموحاتك حتى ولو كان هذا السقف أكبر من إمكانياتك، أما إذا ما خانتك الرؤية فإن الإمكانيات التي لديك يتم هدرها في البحث عن تحقيق أهداف ثانوية أبدا ما تصنع القدرة أو القوة أو تعيد لك المكانة التي تريد.
ولكي تمتلك هذه الرؤية التي تتجاوز بها الإمكانيات المتاحة ينبغي في المقام الأول أن تتضح لديك المفاهيم وأن تكون لديك قاعدة انطلاق تنظر من خلالها إلى الأساس الذي تقف عليه لتدرك تماما إلى أين أنت تسير.
إن أول مفهوم ينبغي أن يعالج اليوم وبكيفية أكثر عمقا هو: أي تقدم نريد وبأي ثمن نريد؟
كثيرا ما يتبادر إلى الذهن ولأول وهلة في هذا المستوى: التقدم الحاصل في البلدان العربية الخليجية، فيقدمه البعض كنموذج لدول تمكنت من أن تتحول في فترة زمنية وجيزة من الوضع المتخلف اقتصاديا إلى قمة التقدم على المستوى العالمي وبخاصة في مجال العمران والخدمات. وتجري مقارنة بيننا وبينه: لماذا لم تتحول الجزائر إلى دبي أو الدوحة مثلا؟ وفي مقام ثان يتم الحديث عن النموذج الماليزي والاندونيسي باعتبار الدولتين تمكنتا من الانطلاق في بناء ناجح ومن تحديد رؤية لهما إلى غاية سنة 2030. وفي مقام ثالث يتم تقديم المثال الكوري الجنوبي الذي تمكن من أن يتجاوز الجزائر بكثير برغم الانطلاقة من نفس البنية التحتية ومن نفس الإمكانيات في بداية الستينيات.
وينسى هؤلاء جميعا أن يذكروا الخلاصة الأهم: أن هناك أشكالا ثلاثة ومفاهيم ثلاثة متميزة عن بعضها البعض للتقدم تختلف من بلدان الخليج العربية المسلمة إلى البلدان الآسيوية المسلمة إلى كوريا غير المسلمة، أي أن القاعدة الأولى لكي تكون لديك رؤية، أن يكون لديك مفهومك الخاص للتقدم لن يكون بالضرورة لا الماليزي ولا الخليجي ولا الكوري، إنما مفهوم قائم على خصائص ومعطيات لها علاقة بالبلد المعني يمكن أن تتقاطع مع بعض الخصائص والمعطيات في البلاد الأخرى ولكنها لا يمكن أن تكون تقليدا تاما أو جزئيا لها.
فبلدان الخليج صاغت مفهومها للتقدم بناء على معطيات تاريخية وجيوسياسية واقتصادية مختلفة عن معطياتنا وحققت ما نراه اليوم من إنجازات، بما يحمل ذلك من تناقضات كبيرة على مستقبل وجودها ذاته خاصة فيما يتعلق بالعمالة الأجنبية وقبول الوجود العسكري عبر أراضيها، واعتماد أنظمة سياسية قائمة على الولاءات الأسرية والقبلية… أي أنها حققت ما حققت لأن قادتها امتلكوا رؤية اتفقنا معها أم لا، تحمل مخاطر أم لا؟ تستمر في المستقبل أم لا، تلك مشكلات أخرى.
وكذا الأمر بالنسبة لكل من ماليزيا (خطة ماليزيا 2020) لمحمد مهاتير، وإندونيسيا (الرؤية الاقتصادية لإندونيسيا 2050) وحتى كوريا، الرؤية التي تم تحديدها من قبل نخبتها هي التي مكنتها من أن تضبط خياراتها وتحدد تحالفاتها وسياساتها الداخلية. لا يهمنا في هذا المقام مناقشتها وهل هي صحيحة أم لا بقدر ما يهمنا أنها وجدت، وكانت لديها مفاهيم واضحة عن أشكال التقدم الذي تريد.
أما عندنا فالخلل يكمن بالتحديد في هذا المستوى: أي مفهوم نحمله للتقدم؟
قادة الثورة التحريرية قدموا لنا في بيان أول نوفمبر جملة واحدة مازالت لحد الآن أفضل من أي مشروع رؤية من تلك المشاريع التي تشير إليها بعض الأدبيات السياسية اليوم. لقد حددوا هدفهم الرئيس في : “إقامة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الاجتماعية ذات السيادة في إطار المبادئ الإسلامية”
وأوضحوا أهدافهم الفرعية بما في ذلك علاقتهم مع الدولة التي يحاربونها في:
ـ استقلال الجزائر في إطار الشمال الإفريقي
ـ وحدة الشمال الإفريقي في إطاره الطبيعي العربي الإسلامي
ـ تصفية النظام الاستعماري مع احترام مصالح الدولة الفرنسية
ـ احترام جميع الحريات
في بضعة كلمات حددوا بوضوح مستقبل الفعل أو العمل الذي هم بصدد القيام. لقد سموه كذلك، العمل l_action أو العمل المحض، ولم يصفون ما سيقومون به بالثورة (نقارن سهولة إطلاق اللفظ لدى ما يُعرف بالثورات العربية). ولم يتضمن بيان أول نوفمبر مفردة ثورة إلا كصفة للحقيقة أو المبادئ أو الحركة أو الظروف (الثورية). أما سيقومون به فقد كان عملا لأجل تحقيق أهداف تم تسطيرها بوضوح. وكان ذلك بمثابة إرساء القواعد الأولى لأي مشروع بناء قادم من الفروض أن يأخذها بعين الاعتبار.
فهل تم ذلك؟
بلا شك لقد حاولت الجزائر من خلال برنامجي طرابلس وميثاق الجزائر أن ترسم لنفسها صورة مستقبلية في مجال إعادة بناء الدولة و تصفية النظام الاستعماري، وكانت الخيارات الأولى ـ اتفقنا معها أم لم نتفق الآن ـ تعبر عن مشروع رؤية حقيقية: كانت بلادنا تريد أن تكون اشتراكية ، غير منحازة، ذات قاعدة اقتصادية متينة، تعيد الاعتبار للريف من خلال الثورة الزراعية، وتفرض التعليم على المجاني على الجميع… بالإضافة إلى تفاصيل أخرى لها علاقة بجميع مناحي المجتمع. وكان الطموح لديها أن تخرج من دائرة التخلف خلال العشرين سنة الأولى التي تلي الاستقلال.
وبالنظر إلى الصعوبات التي عرفتها في العقد الأول، خاصة السياسية منها ـ الانقسام، الانقلاب… بدا وكأن مشروع رؤيتها الذي تضمنه مواثيقها الأولى لم يعد قادرا على الصمود. فجاءت المناقشات الرسمية والشعبية المعروفة سنة 1976 لتنتج “الميثاق الوطني” الشهير. هذا الميثاق الذي تضمن أيضا رؤية أكثر تحديا وضبطا من ذي قبل، حيث، بالإضافة إلى الخيارات الكبرى للدولة، تم إبراز البعد الثقافي لتطويرها في المستقبل ومكونات الشخصية الوطنية ذات الأبعاد المتنوعة.
وكان يمكن أن تستخلص رؤية محددة المعالم من هذا الميثاق يُعلن عنها ويُشرع في تطبيقها، إلا أن ما جرى من تطورات في تلك الفترة ـ وفاة الرئيس بومدين، بداية الانفتاح، بروز التعددية وهبوب رياح الديمقراطيةـ غيّر المعطيات… وتم تجميد مشروع الرؤية الذي كان مطروحا على الجزائريين.
ودخلت البلاد في النفق المظلم، وما أن خرجت منه حتى وجدت أنها في حاجة إلى مشاريع عاجلة لتدارك ما فات، في حاجة إلى مُسكّنات ومُهدّئات وتعويضات لهذا وذاك. وكلها “سياسات” تستدعي اتخاذ إجراءات عاجلة، قرارات سريعة، ومشاريع لتخفيف الضغط هنا أو هناك، وهو ما يتنافى والقدرة على تقديم رؤية ..
وقد عشنا هذه الحقبة، من غير قدرة على التطلع إلى المستقبل. وحان الوقت الآن لتدارك الوضع، ليس كماليزيا ولا كإندونيسيا ولا كبلدان الخليج أو أي بلد آخر، إنما كجزائر لها خصوصياتها التاريخية والجغرافية والبشرية ومسؤولياتها كدولة مركزية في المنطقة.
وبلا شك أن هذه الخصوصيات هي التي تشكل القاعدة التي ترتكز عليها للانطلاق نحو المستقبل (وهو ما يُطلق عليه نظريا عند بناء الرؤية بقاعدة الانطلاق، النظرة للأسس بأثر رجعي) ـ انظر مقالنا الأسبق هندسة الرؤية ـ. ولعلنا اليوم قد بيّنا بعد إبراز أن مفهوم “التقدم” الذي هو المقدمة الأولى لإدراك مشروع البناء ينبغي ألا يرتكز منهجيا على التقليد أو المقارنة (الخليج، الدول الآسيوية أو غيرها) إنما على أساس، ابتكار الرؤية الذاتية المنطلقة مما تملك الدولة من تراث فكري وسياسي في هذا المجال، قبل أي تفكير آخر في القدرات والإمكانيات، موضوع حديثنا المقبل بحول الله.