القوقعة الفارغة

في مسار العلاقات الجزائرية الفرنسية بعد الاستقلال، محطات لا تزال تُشكّل مواضيع خلافية وتُتّخذ واجهة لحرب لم تتوقف يقودها اليمين الفرنسي العالق في شرنقة “الجزائر الفرنسية”. واتفاقيات 1968 حول تنظيم الهجرة، واحدة من منابر المواجهة الحالية، فهل فعلا ما تزال تلك الاتفاقية ذات قيمة، بعد تعديلات ثلاثة أدخِلت عليها أفرغتها من محتواها الأصلي وجعلتها قوقعة فارغة على حد وصف الرئيس عبد المجيد تبون؟
الإعلام الفرنسي المنخرط في حملة منهجية ضد الجزائر عبر تحريف الحقائق ونشر الأكاذيب، يسعى إلى إلقاء اللوم على الطرف الجزائري، من خلال إشاعة رفض الجزائر مراجعة هذه الاتفاقية التي املتها سياقات تاريخية معينة، كانت فرنسا فيها المستفيد الأول من العمالة الرخيصة، في المناجم والمصانع والفلاحة وغيرها من القطاعات.. مع تحديد دخول 35 ألف عامل جزائري سنويا إلى فرنسا لمدة 3 سنوات.
هذه الاتفاقية المبنية على أنقاض اتفاقية أولى وقِّعت سنة 1964 وألغيت في 1966، أعطت بعض الامتيازات الاجتماعية للجزائريين أهمها تسهيل تقديم تصاريح الإقامة واستقدام العمال لعائلاتهم للعيش في المهجر من دون عقبات إدارية، والحصول على بطاقة إقامة مدتها 10 سنوات، إضافة إلى تسهيل ممارسة أي وظيفة مستقلة مثل فتح محلات تجارية ومطاعم ومقاه وشراء الشقق والعمارات، غير أن الحقائق تضعنا أمام تعديلات عميقة خضعت لها سنوات 1985 و1994 و2001. وهي التعديلات التي لم تكن مطلقا في صالح الجزائر وأفرغت الاتفاق من مزاياه؛ ففي سنة 1985، قامت باريس بفرض التأشيرات على الجزائريين بينما كانوا في السابق يدخلون فرنسا من دونها. ليجري التضييق أكثر عليهم في التعديل الثاني الذي وقِّع في 1994، عبر فرض قانون جديد يمنع الجزائريين المقيمين من مغادرة فرنسا لمدة تتجاوز ثلاث سنوات، وإلا سيفقدون بطاقة إقامتهم. وقد استهدف من خلاله المتقاعدون بشكل خاص قبل أن يُلزموا بعد ذلك بالحضور إلى فرنسا خلال فترات أقل. في حين جاء تعديل 2001 ليجهز على ما تبقى من مزايا تلك الاتفاقية، عبر تشديد إجراءات الحصول على التأشيرة الفرنسية، ولم يتبق للجزائريين سوى بعض الامتيازات مثل الحرية في ممارسة الأعمال التجارية والاستثمار. ولم يكن الابقاء على هذا الامتياز اعتباطيا، فخلال تلك الفترة بدأت أموال الكثير من ناهبي المال العامّ تتدفق على فرنسا.
هذا المسار الطويل من التعديلات، يؤكد أن الجزائر لم تكن ترفض المراجعة، بقدر ما رفضت استغلال ملف الهجرة واتفاقية 1968 سياسيا، من قبل الأحزاب اليمينية التي أحكمت قبضتها على حكومات ماكرون في عهدته الثانية. ماكرون الذي سبق وكشف عدة مرات أن الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، منفتح على بعث مفاوضات جديدة بخصوص ما تبقى تحت قوقعة تلك الاتفاقية.
اتفاقية رفضت الجمعية الوطنية الفرنسية في ديسمبر2023 -بأغلبية 151 صوت مقابل 114- مقترحا من حزب “الجمهوريون” اليميني، يطالب السلطات الفرنسية بإلغائها. وهو الرفض الذي أكده ماكرون منذ أيام فقط، وأوضحه الوزير المكلف بالشؤون الأوروبية، بنجامان حداد الذي مثّل الحكومة في مجلس الشيوخ وقال أثناء مناقشات جرت الأربعاء بشأن تقرير يقترح نقض الاتفاق إن «الموقف الرسمي للحكومة قد تغيّر بعد تدخل الرئيس إيمانويل ماكرون». وأوضح حداد أن معاهدة 1968 لا تتعلق بالهجرة غير الشرعية، ولا تناقش مسألة تراخيص المرور القنصلية التي تسمح بترحيل المهاجرين غير النظاميين. وفيما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، أكد حداد أن «الجزائر تخضع في الغالب للقانون العامّ، وليس لاتفاق استثنائي»، مشيراً إلى أن نسبة إصدار تصاريح المرور القنصلية ارتفعت بواقع 42 في المائة، العام الماضي، في اشارة إلى التعاون الجزائري قبل الأزمة الحالية.
هذا اللغط الذي يقوده اليمين المتطرف والخلط بين اتفاق 1968 وبين الهجرة غير الشرعية ومسألة المطالَبين بمغادرة التراب الفرنسي، يعطي صورة واضحة على محاولات القفز على الحقائق وحجم الافتراءات التي تتعرّض لها الجزائر من قبل هذا التيار الحاقد والذي لا يزال يعيش في عباءة الفكر النازي الاستعماري.
الرئيس تبون كان قد قال قولا فصلا في هذا الموضوع منذ مدة وفي فترات متعددة حين وصف اتفاقية 1968 بـ”القوقعة الفارغة”، وعبّر عن استعداد الجزائر للنظر مجددا في هذه الاتفاقية بشرط أن تضمن حقوق الجزائريين، وهذا ما لا يعجب اليمين.