الكوريغرافيا ما زالت تبحث عن شرعية لها في الجزائر

في وقت لا يزال فيه الجسد يخضع لرقابة اجتماعية وتهميش ثقافي، تحاول الأستاذة المكونة والمصممة الكوريغرافية نوارة أدامي إعادة الاعتبار إلى الكوريغرافيا كفن راقٍ، لا كترف جمالي، من معهد برج الكيفان إلى أكاديمية البولشوي الروسية، خطت هذه الفنانة مسارًا فنيًا عريقا، وتابعت حلمها حتى وصلت إلى معقل الباليه الروسي في قلب موسكو، لتصبح واحدة من أبرز المصممات الكوريغرافيات في الجزائر، لتجعل من الجسد أداة تفكير وتعبير وفن وكونت أجيالا من المبدعين.
في هذا الحوار، نستعرض شهادتها عن الكوريغرافيا في الجزائر، عن التكوين، التحديات، ونظرة المجتمع إلى الجسد والفن، ما تحقق وما لم يتحقق بعد.
بداية، أخبرينا عن تجربتك في الاتحاد السوفياتي. كيف كانت تلك المرحلة من التكوين وما الذي أضافته إلى شخصيتك الفنية؟
بدأت دراستي في الجزائر وسني لم يتجاوز 10 سنوات، حيث التحقت بالمعهد الوطني للفنون الدرامية والكوريغرافيا ببرج الكيفان سنة 1969، أين تلقيت التكوين لمدة 09 سنوات على يد أساتذة محترفين من بلغاريا، روسيا، سويسرا، فرنسا والجزائر، قبل أن أحصل على منحة لمزاولة الدراسة في الاتحاد السوفياتي سابقا كثمرة لسنوات من الجهد والمثابرة في مساري الدراسي، حيث التحقت بأكاديمية “البولشوي” للباليه في السنة الأولى عام 1978، وبعدها بالمعهد الروسي للفنون المسرحية “غيتيس” بموسكو بعد مسابقة التأهيل، كما كان لي الحظ في مزاولة تربصات مختلفة بأوكرانيا واستونيا، وبالتالي، فإن دراستي في الاتحاد السوفياتي كانت محطة محورية في حياتي، تعلمت من خلالها الانضباط الفني والصرامة التقنية، واكتشفت أن الكوريغرافيا ليست فقط مجموعة حركات، بل هي علم قائم بذاته، قائم على التعبير، السينوغرافيا، الموسيقى، والوعي الجسدي وإبداعا فنيا نبيلا يشكل حلقة هامة في فنون العرض، مما أثمر تكوينًا شاملاً، مزج بين النظرية والتطبيق، وفتح عينيّ على إمكانيات الجسد كوسيلة للتفكير والإبداع.
ما الذي دفعك إلى اختيار الكوريغرافيا كمسار أكاديمي وفني، في وقت لم يكن هذا التخصص معروفًا بشكل واسع في الجزائر؟
كان لدي دائمًا شغف بالجسد كوسيلة للتعبير، وكنت أبحث عن لغة بديلة للكلمة، لغة عالمية تتجاوز الحدود، فرغم أن مفهوم الكوريغرافيا لم يكن متداولاً في الجزائر بشكل كبير، وكان يُختزل غالبًا في “الرقص الشعبي” أو التعبير التراثي، إلا أن طموحي دفعني للذهاب إلى أبعد من ذلك، وأن أُكوّن نفسي في مدرسة تقدم أدوات علمية وفنية لفهم الجسد وصياغته في العرض كلغة فنية إبداعية مثلها مثل المسرح والموسيقى والسينما.
كيف تصفين واقع التكوين الكوريغرافي في الجزائر اليوم؟ هل هناك مؤسسات قادرة على تخريج مصممين ذوي كفاءة عالية؟
للأسف، التكوين لا يزال محدودًا بالمقارنة مع الإمكانيات والمواهب الموجودة في الجزائر، لا يمكن إنكار بعض مبادرات التكوين التي تقدمها المعاهد المركزية للفنون (الكونسرفاتوار) وبعض الفرق والجمعيات، وأغلب المصممين والراقصين اليوم يتكونون بشكل ذاتي أو عبر ورشات قصيرة المدى، ما يؤدي إلى نقص في العمق النظري وفي فهم تاريخ هذا الفن، وهذا يبقى غير كاف لتقديم تكوين متكامل في هذا التخصص خاصة في ظل غياب مدرسة وطنية للكوريغرافيا بمفهومها الكامل، مما يحدّ من تطور هذا الفن، وبالتالي، فإن التفكير في إنشاء مدرسة وطنية متخصصة أصبح ضرورة ملحة للنهوض بهذا الفن بوصفه حلقة فعالة في عناصر العمل الفني.
هل تعتقدين أن الكوريغرافيا حاضرة بما يكفي في المشهد الفني الجزائري، خصوصًا في فنون العرض مثل المسرح والسينما؟
نلاحظ بعض المحاولات لتوظيف الكوريغرافيا والحركة في المسرح بشكل اكبر، إلا أن حضورها لا يزال خجولاً خاصة في السينما، فغالبًا ما تكون الكوريغرافيا عنصرًا مُكملاً لا محوريًا، وحضورها نادر جدًا، لذا فنحن بحاجة إلى وعي أكبر بأن الجسد في العرض هو حكاية قائمة بذاتها، وأن الكوريغرافيا يمكن أن تُعزز من الرسالة الجمالية والفكرية للعمل الفني.
من خلال تجربتك الطويلة، كيف كان يتم توظيف الجسد في العروض الجزائرية؟ وهل هناك وعي كافٍ بأهمية الحركات في بناء المعنى المسرحي؟
في الغالب، كان يُنظر للجسد على أنه “أداة تقنية” وليس “حاملًا للمعنى”، كان التركيز دائمًا على النص والكلمة، بينما الجسد يُترك للارتجال أو للتعبير العفوي، لكن الأمور بدأت تتغير، خصوصًا مع الجيل الجديد من المسرحيين الذين يعطون أهمية أكبر للحركة، ويستعينون بكوريغرافيين محترفين في بناء عروضهم، بل هناك عروض تبنى في مجملها على الكوريغرافيا وهذا أمر محفز ويعطي جمالية استثنائية للعروض مثلما شاهدنا في بعض الأعمال الجزائرية الضخمة مؤخرا على غرار افتتاح الألعاب المتوسطية والعربية والاحتفال بسبعينية اندلاع الثورة التحريرية، إلا أن هذه المبادرات لا يجب أن تبقى حبيسة الإبداع المناسباتي خاصة بوجود المؤهلات والمواهب الجزائرية التي صنعت التميز.
كثيرًا ما تُساءَل “الكوريغرافيا” مجتمعيًا بسبب علاقتها بالجسد، كيف ترين نظرة المجتمع الجزائري إلى هذا الفن؟ وهل تغيرت هذه النظرة عبر الزمن؟
لا يزال هناك نوع من الريبة تجاه كل ما له علاقة بالجسد. الكوريغرافيا تُخلط أحيانًا بالرقص الترفيهي، أو يُنظر إليها من زاوية أخلاقية ضيقة. لكن هناك تقدم، خصوصًا في الأوساط الفنية والثقافية، حيث بات يُنظر للكوريغرافيا كفن راقٍ، يتطلب معرفة وثقافة وفهمًا عميقًا للتاريخ والجماليات والدليل على ذلك استثمار الدولة في شبابها المبدعين لتقديم تحف فنية استعراضية بأبعاد عالمية في مختلف التظاهرات الثقافية والرياضية الوطنية والدولية.
ما هي أكبر التحديات التي تواجه الكوريغرافيين الشباب في الجزائر اليوم؟ وهل تجدين أن الدولة توفر لهم الفضاءات والدعم الضروري؟
أبرز التحديات هي غياب مدارس تكوين متخصصة في المجال، وندرة فرص التكوين الأكاديمي بالإضافة إلى نقص الفضاءات المخصصة للتدريب والعروض، فالكوريغرافيا لا تزال فنًا “مهمشًا” من حيث التمويل والبرمجة، بالرغم من الجهود المحتشمة والتي تبقى مشتتة ولا ترقى إلى مستوى المشروع الثقافي المتكامل الذي يعطي لهذا التخصص حقه.
هل من مشاريع حالية تعملين عليها؟ وما هو طموحك الفني في المرحلة القادمة؟
أحضر حاليا لعرض فني ضخم بعنوان “éclat d’ame” تحت إشراف وزارة الثقافة والفنون ومن تنظيم أستوديو سيلفيد بالتنسيق مع التعاونية الثقافية والفنية “نوارة” وأوبرا الجزائر بوعلام بسايح، والذي سنقدم من خلاله لوحات كوريغرافية استعراضية تمزج بين الرقص الكلاسيكي، والمعاصر والجاز، يشارك فيه أزيد من 50 فنانا من مختلف الأعمار والذين تلقوا تكوينا أكاديميا منذ صغرهم، حيث سيكون العرض بتاريخ 11 جويلية الجاري على مستوى أوبرا الجزائر بوعلام بسايح، كما شاركت في احتفالات الذكرى الـ63 لعيد الاستقلال والشباب بعرض فني من إنجاز بالي مؤسسة فنون وثقافة الذي اشرف على إدارته، أما حلمي الأكبر، فهو إنشاء مدرية وطنية للكوريغرافيا تحتضن الطاقات الشابة وتوفر تكوينًا احترافيا طويل المدى.
أخيرًا، ما الرسالة التي تودين توجيهها إلى الشباب الذين يرغبون في دخول عالم الكوريغرافيا؟
عليهم التحلي بالشغف، بالصبر، وأن يسعوا للمعرفة، فالكوريغرافيا ليست مجرد حركة، هي أيضا رياضة وإبداع وتربية كما أنها مسؤولية فنية وثقافية، فالجسد ذاكرة، ومتى امتلكنا أدوات قراءته وكتابته، استطعنا أن نصنع فنًا يحاور العالم.