اللوبي الفراكوفوني يكبح المشاريع العربية في الجزائر

فجر هروب الاستثمارات الأجنبية الكبرى من الجزائر والتحاقها بدول أقل إمكانيات من الجزائر، جملة من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية التي تقف وراء هذه الظاهرة، وبينما يلقي مطلعون المسؤولية على مناخ الاستثمار غير الملائم ويرمون الكرة في مرمى الحكومة بسبب ضعف قدراتها التفاوضية، يؤكد البعض الآخر أن الجدل حول هذه القضية أخذ أبعادا أكثر من حجمه. فأين الحقيقة بين هذا وذاك؟ وما حقيقة ما يثار عن نفوذ اللوبي الفرنسي في الجزائر ووقوفه في وجه الاستثمارات العربية.. هذه الأسئلة وأخرى سيجيب عنها الملف السياسي لهذا الخميس.
الاستثمار الفرنسي في الجزائر
الزُّبْدة مقابل الزَّبَد!
أعاد نفور الاستثمار الغربي والفرنسي على وجه الخصوص، من الجزائر، إشكالية التوازن في العلاقة بين الدبلوماسية والاقتصاد في السياسة الخارجية للجزائر.. هذه القضية التي كانت من بين الأولويات في ورشات إصلاح الدولة في عهد الرئيس بوتفليقة، باتت اليوم على المحك.
وجاء إعلان عملاق السيارات الفرنسي “بيجو” وقبله الصانع الآخر “رونو” عن إقامة مصنعين لكل منهما على التراب المغربي، ليفجر جملة من التساؤلات حول جدية ما يشاع عن “حميمية” العلاقات الجزائرية الفرنسية، والتي بلغت برأي المتتبعين أعلى مستوياتها في عهد الرئيس الحالي، الاشتراكي، فرانسوا هولاند.
لو أعلن عن إقامة مصنعي “طنجة” و”القنيطرة” في عهد الرئيس الفرنسي السابق، اليميني نيكولا ساركوزي، لمر الأمر بسلاسة وتم ابتلاعه بسهولة، بحكم العلاقة المتوترة دوما بين الجزائر وهذا التيار، أما أن يعلن عن المصنعين في عهد الرئيس الحالي، فرانسوا هولاند، الذي يوصف من قبل الكثير من المتابعين بأنه “صديق الجزائر”، فهذا ما يصعب هضمه.
ويعتبر الاستثمار الفرنسي في صناعة السيارات بمثابة البوصلة الحقيقية للعلاقات الاقتصادية بين الجزائر وفرنسا، لأن فيه الكثير من السياسة ومن الاقتصاد طبعا، والكثير أيضا من الاستفزاز للطرف الجزائري بحكم خصوصية العلاقة التي تربطه بالمخزن.
هناك استثمارات فرنسية في العديد من القطاعات الاقتصادية بالجزائر، في الطاقة عبر “توتال”، البنى التحتية من خلال “ألستوم” التي عادت للحياة بفضل المشاريع الجزائرية، والإسمنت ممثلة في العملاق “لافارج”، والزجاج عبر “سان غوبان”.. هي استثمارات فيها من الأهمية بالتأكيد، لكنها لا ترقى لمستوى ما أصبح يعرف بقضيتي “بيجو” و”رونو”، اللتان باتا بمثابة كرتي ثلج، تنذران بعودة العلاقات الثنائية إلى مرحلة الإضطراب التي عمرت لسنوات طويلة.
قد يكون الأمر مستساغا لو تعلق الأمر بقطاع ثانوي في السوق الوطنية كالزجاج مثلا، أما أن ينقل شريك استثماراته لبلد منافس، ومنتجاته تسيطر بالطول والعرض على سوق السيارات في البلاد، فهذا يشكل قمة الاحتقار، ليس فقط لحكومة وإنما لشعب بأكمله، أم أعلن عن مشاريع من هذا القبيل، فالأمر لا يتعدى مجرد استرضاء، لا غير.
الحكومة وبحكم هذه المعطيات، باتت أمام حرج كبير ليس فقط أمام المعارضة، وإنما أمام عموم الجزائريين، بسبب الخطاب الذي دأبت السلطة على تسويقه في السنوات الأخيرة، كلما أشكل الأمر بين البلدين بخصوص الماضي الاستعماري، والذي كانت دائما تتحمل الجزائر ثقله (إجهاض مشروع قانون تجريم الاستعمار)، بداعي النظر للأمام وعدم رهن العلاقات مع شريك يملك مقومات النهوض، بقضية أصبحت من التاريخ!
وصفه أويحيى بأنه تصاميم ومجسمات وأرقام في الهواء
الاستثمار العربي في الجزائر.. ظالم أم مظلوم؟
حينما وصل الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى سدة الحكم عام 1999، أعلن الحرب على مافيا الاحتكار والاستيراد، ليتوجّه نحو فسح المجال أمام الاستثمار الأجنبي، ولأنّ الدول الغربية كانت تحاصر الجزائر على خلفية العشرية الحمراء، فلم يجد الرئيس حينها سوى الانفتاح على المال العربي ـ الخليجي، مستثمرًا في ذلك علاقاته القوية مع أمراء وملوك العرب ورجال أعمالهم، ومع تحسّن الوضع الأمني مطلع الألفية الثالثة، وتحقيق الجزائر لطفرة مالية بفعل العائدات النفطية، صارت بلادنا قبلةً لكبرى الشركات العربية، من مصر، الإمارات، السعودية، قطر، الكويت، حيث هرولت لتقديم عروضها الاستثمارية في مجالات الصناعة والسياحة والبناء.
إرادة الرئيس بوتفليقة كانت برأي المراقبين جادّة وقويّة، في تمكين العرب من التوطين في الجزائر، لحسابات براغماتية، وربّما لقناعات مبدئية أيضا، ففتح مكتب متابعة مباشر للاستثمار العربي، وفضّل “أوراسكوم” للاتصالات على المتعامل الفرنسي في 2001، ثمّ تعهد لباقي المستثمرين بضمان كلّ التسهيلات الإدارية والإجرائية لتجسيد مشاريعهم، وأشهرهم “إعمار” الإماراتية، و”جراند” الكويتية، و”سناسكو” السعودية.
وبمقتضى ذلك، ظهرت مشاريع عربية طموحة مثل: القرية السياحية الضخمة ببلدية عين طاية، بتكلفة بلغت حوالي 7،1 مليار دولار، و خليج الجزائر، والواجهة البحرية، ومدينة سيدي عبد الله، وحظيرة الرياح الكبرى، والمركب السياحي “موريتي”، ومصنعًا لإنتاج زيت المائدة بمدينة وهران لمجموعة صافولا…
لكن تجري رياح الواقع بما لا تشتهيه إرادة الرئيس، فتتبخّر أحلام العرب والجزائريين، بفشل معظم تلك المشاريع المعلنة، وانسحاب المتعاملين تباعًا من الميدان، لترسو اليوم نتائج الاستثمار العربي في الجزائر، على بضع مليارات من الدولارات، في بلد بحجم قارة، يملك كل مؤهلات الإقلاع الاقتصادي، لكنه مازال مكبّل الأطراف!
تضاربت التفسيرات لعزوف العرب عن الاستقرار في الجزائر، بين حديث عن مناخ غير مشجع، وعراقيل بيروقراطية، وعوائق إداريّة، وعقبات تشريعية، وذهب آخرون إلى تحميل المستثمرين العرب مسؤولية الإخفاق، بفعل الأزمة المالية العالمية، لكن الواقع يثبت أن تلك الشركات أنقذت نفسها من الانهيار، وواصلت نجاحها في بلدان أخرى دون أيّ آثار سلبية.
في 2009، سئل الوزير الأول وقتها أحمد أويحيى عن أسباب التعثر الذي يواجهه العرب في الجزائر، فعلّق قائلا: إنّ عروضهم كانت مجرّد تصاميم ومجسمات وأرقام في الهواء!
غير أنّ الحقيقة التي يؤكدها العارفون بشؤون الإدارة وصناعة القرار في الجزائر، هو أن الاقتصاد في بلد ينتمي لمحور التخلّف، لا ينفك عن السياسة والأيديولوجيات، وفي هذه الحالة، فقد دفع العرب ثمن الغضب الفرنسي والضغوطات الأوروبية على السلطة الجزائرية.
ربّما تتعاضد كل هذه التحليلات، في فهم ما جرى لشركات رائدة في العالم، لكنها غادرت الجزائر بخفّي حنين، إلاّ البعض ممّن شكّل استثناء يحفظ ولا يقاس عليه، لتبقى الجزائر، هي الخاسر الأكبر من تضييع الفرص، في سياق يؤشر على تدشينها لأزمة مالية جديدة، قد تعصف بمكتسباتها الاجتماعية، فهي اليوم خائبة الأمل من الشراكة الأوروبية التي أثقلت كاهلها دون مقابل، وشبه يائسة من عودة العرب، بينما هوت أسعار النفط في وقت حرج، فأيّ مصير ينتظرها، وهل تملك السلطة حلولاً إبداعية لإسعاف نفسها، وحماية البلاد والعباد من أخطائها العبثية؟
قال إن العرب لا يستثمرون إلا في البازارات.. الخبير الاقتصادي كمال ديب:
المغرب محظية فرنسا.. وجزائريون عبيد لدى باريس
كيف تقيمون واقع الاستثمارات الأجنبية في الجزائر؟
واقع الاستثمار في الجزائر يميزه مناخ الأعمال غير المحفز والوتيرة المتذبذبة لتدفق المشاريع الأجنبية، وغموض وعدم استقرار القوانين المنظمة للاستثمار، فاليوم تعلن الحكومة عن قاعدة استثمارية لتتراجع عنها في الغد، وهو ما دفع بالعديد من الشركات الأجنبية إلى مقاضاة الجزائر، ومنها ما قرر عدم العودة، ويضاف إلى ذلك الفساد المنتشر في الإدارة والرشاوى والبطء في استصدار الرخص وانعدام الكفاءة في تحرير العقود وبيروقراطية البنوك، هي عراقيل تجعل من الاستثمارات الأجنبية في الجزائر تحتضر.
تشهد العلاقات السياسية مع فرنسا تقدما نوعيا، لكن على المستوى الاقتصادي يبدو الأمر معاكسا، لماذا؟
هذا راجع بالدرجة الأولى إلى غياب مناخ استثماري محفز وانعدام القوانين المشجعة، ففرنسا دائما تبحث عن الربح قبل كل شيء، وتختار الوجهة التي ترى أنها تقدم ضمانات أكبر لاستثماراتها، وهو الشيء الذي لم تعد تلقاه في الجزائر، ولا علاقة للملف بالوعود السياسية، هي أمور تحسب بالمصالح، وفرنسا باتت ترى أن المغرب أكثر احتضانا لاستثماراتها من الجزائر.
خسرت الجزائر معركة استثمارية مؤخرا بإعلان “بيجو” إقامة مصنع لها بالمغرب.. ماذا تقولون؟
الاستثمار في المغرب قرار شخصي لا يتخذه إلا الملك، خلافا للجزائر التي تناقش هذه الملفات في اجتماعات حكومية ومجالس وزارية.. وهو ما يعطل ربما المشروع في الجزائر ويعجّل به في المغرب، وبالرغم من أن المؤسسات المغربية ليست بعيدة عن الفساد مقارنة مع الجزائر، ففرنسا تفضلها بالنظر إلى أن المغاربة لديهم قابلية أكبر لاحتضان الوجود الفرنسي الاقتصادي بعيدا عن القواعد الاستثمارية وملفات الماضي الاستعماري، والدليل رؤساء فرنسا الذين يقضون عطلهم بالمغرب.
هناك من يقول إن زيارة هولاند الأخيرة جاءت بهدف التقليل من غضب السلطات الجزائرية على هروب “بيجو” نحو المغرب، مثلما كان الشأن مع “رونو” سابقا.. هل تشاطرون هذا القول؟
لا أبدا، والدليل على ذلك برنامج هولاند المنشور فور عودته على الموقع الإلكتروني لـ”الإيليزي” والذي تضمن لقاء مع وزير الدفاع الفرنسي، وهو ما يوحي بأن سبب زيارته للجزائر قد يكون حول ملف الحراڤة ومراكز الإيواء أو “داعش” وليس لهدف اقتصادي بارز، ولا ننسى أن الرئيس الفرنسي جاء بدعوة من نظيره بوتفليقة، وأود أن أوضح أن بيجو بالنسبة لهولاند ليست سوناطراك بالنسبة للجزائر.
هنالك من يقول إن فرنسا وبفضل نفوذها في الجزائر تضع العراقيل أمام الاستثمارات العربية، ما تعليقكم؟
أعتقد أن فرنسا ليست من يضع العراقيل، وإنما اللوبي “الفرونكوفوني” في الجزائر، فمن بين 680 وزير تداولوا على الحكومات الجزائرية منذ الاستقلال، أزيد من 400 وزير سابق يقيمون حاليا في فرنسا، هؤلاء هم من يخدمون وجود فرنسا في السوق الجزائرية، وهنا لا أخفيكم سرا أني لست من المتحفزين للاستثمارات العربية، فهي لا تستثمر إلا في المساحات الكبرى والبازارات والفنادق، ولا تجلب شيئا لقطاع الصناعة.
وزير التجارة الأسبق الهاشمي جعبوب
اللوبي الفرنسي حقيقة وهو مصدر مشاكل الاستثمار العربي
هل تعتقدون بوجود صراع بين الاستثمار العربي والغربي والفرنسي خصوصا في الجزائر؟
هو ليس صراعا فقط، بل هناك امتيازات استثنائية كبيرة تمنح للأوروبيين والفرنسيين وسلعهم في إطار اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي والإعفاءات الجمركية، وهذا رغم وجود اتفاق وقعه رئيس الجمهورية للانضمام للسوق العربية المشتركة، لكنها أفرغت من محتواها.
أما ما تعلق بالاستثمارات، فالمناخ الاستثماري في الجزائر ما زال دون المستوى، وزيادة على هذا، فهذه الاتفاقيات الاستثنائية تجعل السلطة تقدم تنازلات وامتيازات استثنائية جبائية وجمركية وبنكية لدول دون غيرها، وإقامة مصنع في دولة ما قرار اقتصادي، لكن عندنا صار يتم بقرار سياسي والجميع يتدخل وتمنح الامتيازات بالمجان.
المشاريع الاستثمارية العربية فشلت كلها تقريبا.. من يتحمل المسؤولية؟
المشكل الأول هو الإدارة التي في الأصل وجدت من أجل المرافقة والتشجيع على الاستثمار، لكنها عندنا تحولت إلى أداة بيروقراطية خانقة، ولو نقرر تسيير الأمور لسنة واحدة من دون هذه الإدارة لسارت أحسن بـ 100 مرة، فضلا عن العقار الصناعي الذي صار عقبة حقيقية، والضبابية وعدم استقرار قوانين الاستثمار.
وأعتقد أن تعدد مراكز القرار في الجزائر ساهم هو الآخر، فالكل مسؤول والكل يتدخل ولديه حق الفيتو وكل المديريات في الولاية تقريبا تتدخل عدا مصالح الشؤون الدينية، والأولى أن تمنح الامتيازات للدول العربية وليس الأوروبية.
هناك من يتهم فرنسا بوضع العراقيل أمام الاستثمارات العربية لكنها لا تأتي بالاستثمارات الثقيلة إلى الجزائر.. ما قولكم؟
فرنسا ما زالت تعاملنا بمنطق المالك للجزائر، وتعتبر السوق الوطني الجزائري ملكا لها، وأتذكر قبل عامين عندما صرح وزير التجارة الفرنسي من أرض الجزائر، أن باريس منشغلة لتعاظم التواجد الصيني في الجزائر.
أما الاستثمارات، فأنا ضد الشوشرة الحالية القائمة في الجزائر والمغرب بخصوص الاستثمار الفرنسي، لأن باريس تعاملنا معاملة الضرائر وتبتز هذا بهذا، وأتساءل لماذا هذا الانشغال عندما يتعلق الأمر بالجزائر والمغرب ولا يحدث شيء عندما يكون الاستثمار الفرنسي في السنغال مثلا، وعليه يجب عدم الوقوع في هذا الفخ.
هل تعتقد بوجود لوبي فرانكوفيلي في الجزائر يعرقل الاستثمار العربي؟
نعم، هو لوبي فرانكفوني فرنسي أوروبي، يدافع عن مصالح فرنسا والأوروبيين في الجزائر، والمشكل يكمن فينا نحن لأننا لا ندافع عن مصالحنا ونمنح الامتيازات بالمجان على غرار اتفاق الشراكة الذي يكبدنا سنويا قرابة 3 ملايير دولار من الحقوق الجمركية، وبالمقابل لا استثمارات أوروبية جاءت إلى الجزائر.
إذن، فاللوبي هذا موجود وبقوة وهو مدعوم من أعوانه في الداخل للدفاع عن مصالح فرنسا والغرب، وهو ضد الوجود العربي والاستثمار العربي في الجزائر.