المال الذي أفسد الحال
نعتقد بأننا أغنياء بما لدينا من مداخيل بترولية معتبرة مقارنة مع البلدان الفقيرة، أما مقارنة مع البلدان الغنية حقا بثرواتها وإنتاجها ومعارفها فنحن فقراء.. ولأننا نعتقد أننا أغنياء بما نملك من موارد مالية نتيجة تسويق النفط الذي هو هبة من الله، أصبحنا نُقيم سياستنا على أساس ما نملك من أموال ريعية لا على أساس ما نملك من أفكار ومعارف مبتكرة وسياسات مدروسة.
عند مواجهة مشكلة في أي من القطاعات يُسارع المسؤول الأول بالإجابة: لدينا أموال.. الدولة لديها أموال.. سنخصص لذلك ميزانية.. حتى قبل التفكير في الحلول.
ويدور النقاش في غالب الأحيان حول الحل المالي للمشكلة حتى قبل الحل الحقيقي.
هكذا حدث مع تشغيل الشباب، وحدث مع الإنتاج الفلاحي والصناعي، ويحدث في جميع القطاعات بما في ذلك التربية والتعليم والثقافة.. لا تكترثوا لدينا أموال.. ويتم التفاوض على رفع الأجور والمنح والعلاوات والهبات والأغلفة المالية… بدل مناقشة السياسات وتحديد جدواها وأبعادها ثم السؤال فيما بعد عما تحتاجه من أموال للتنفيذ.
نحن نتصرّف بعكس ما يتطلب المنطق لأن المال أفسد حالنا.. أفسد حالنا بحق.. ليس فقط على مستوى شبكة العلاقات الاجتماعية كما نعيش جميعاً، إنما على مستوى شبكة التفكير التي توقفت عن الإبداع والابتكار.
وأنتج ذلك ظاهرة أصبحت هي التي تحكم تسييرنا اليوم: وجود القادرين على التعامل مع المال، هبة وعطاءً وإنفاقا وحتى اختلاسا، في مواقع القادرين على التفكير والإبداع.
وتحوّل ما نعتقده كثيراً من المال إلى نقمة بدل أن يكون نعمة، وفهم المتعاملون الأجانب ذلك.. واقترب منا اللصوص أكثر من المستثمرين، ودخلنا دوامة الفساد التي يعرفها الجميع.
وتنزل اليوم بورصة أسعار البترول، ويدرك الجميع أن مداخيل الريع لا تدوم، ويُصبح بإمكاننا أن نتحدث عن قيمة الأفكار لا قيمة الأشياء، قيمة الإبداع والمعرفة لا قيمة براميل النفط وحاويات المواد الأولية… وتُصبح الحاجة ملحّة إلى البحث عن حلول حقيقية للمشكلات تستبدل عبارة: “الدولة لديها أموال” بعبارة: الدولة لديها أفكار ولديها رجال ونساء إنْ في الداخل أو في الخارج قادرون على تطوير هذه الأفكار… ما يستلزم البحث عنهم وإعادة بناء سياسات من خلالهم قائمة على أولوية الفكرة، البرنامج، التصور، الرؤية، المال… تصحيح الوضعية التي احتلها المال في سياستنا.. القيام بالتغيير المأمول… إعادة الأمل في الانطلاق من جديد.. هو ذا البديل الاستراتيجي إذا كنا نبحث عن بديل، بعيداً عن الجزئيات والتفاصيل.