المجايلة التاريخية للأجيال في المدرسة الجزائرية

تُعدّ المدرسة الجزائرية من بين أهم المؤسسات التي واكبت تطورات المجتمع الجزائري بعد الاستقلال، وشهدت تحولات عميقة في بنيتها وأدوارها ووظائفها التربوية والتعليمية. ولتأمل مسار هذه المؤسسة الحيوية، يمكن تقسيم تاريخها الحديث إلى ثلاثة أجيال، تمتد كل مرحلة منها إلى ثلاثين سنة، وذلك وفق المعايير المعترف بها في دراسات المجايلة التاريخية. هذا التقسيم يُبرز أوجه التحول في الرؤية التربوية، والمضامين التعليمية، والقيم المجتمعية التي طبعت كل جيل، كما يتيح فهماً أعمق للتغيرات الاجتماعية والسياسية التي أثّرت على المدرسة الجزائرية.
* الجيل الأول (1962– 1992):
يُعدّ هذا الجيل امتدادًا مباشرا لحالة الجزائر المستقلة، إذ وجد نفسه أمام واقع تربوي هشّ، تركة استعمارية ثقيلة، وبنية تعليمية منهكة تفتقر إلى الكوادر، والمقررات، والبنية التحتية الملائمة. لقد كان جلّ ما توفر للمدرسة الجزائرية آنذاك هو الإرادة السياسية الطموحة للخروج من مستنقع الجهل والأمية، وبذل الجهد من أجل تعميم التعليم وتوسيع مداه، رغم قلة الإمكانات.
تميّز هذا الجيل بالبساطة والتشبُّث القوي بالقيم الأخلاقية، والانضباط السلوكي، وروح الالتزام تجاه المدرسة والدولة. والمتعلم في تلك الفترة، رغم ضعف التأطير وغلبة التلقين والتحفيظ (مقاربة المضامين)، كان متعطشًا للعلم، مؤمنًا برسالة المدرسة، ومتأثرًا بقيم المجتمع التقليدية الأصيلة. كما برزت في هذا الجيل نزعة وطنية عميقة، عبّرت عن نفسها من خلال احترام الرموز الوطنية والتمسك بالهوية، وإن كان هذا الوعي في بداياته لم يرتكز بعد على أرضية فلسفية متماسكة.
* الجيل الثاني (1992– 2022):
عرف هذا الجيل تحولات نوعية، تزامنت مع مرحلة بناء مؤسسات الدولة وتثبيت أسسها، لاسيما في قطاع التربية الوطنية الذي أُخضِع لمراجعات متكررة، من حيث البرامج والمناهج وطرق التدريس. لقد استفاد هذا الجيل من موجة التحديث، وإدخال أساليب تربوية جديدة مستمدة من التجارب التعليمية العالمية، مع الانفتاح على تكنولوجيا المعلومات والتواصل، ما ساهم في تحسين جودة التعليم بشكل نسبي.
الجيل الثالث للمدرسة الجزائرية جيلٌ مميز، يمتلك من الخصائص ما يجعله مؤهلاً لحمل الأعباء المتراكمة منذ عقود، والسير بالبلاد والمجتمع نحو نهضة جديدة. هو جيلٌ يقف عند مفترق طرق: إما أن يُحدث القطيعة مع السياسات والأساليب الفاشلة السابقة ويؤسس لمرحلة جديدة من البناء والإصلاح، أو أن ينزلق إلى متاهات وانحرافات تزيد من تأزيم الواقع، مما يجعل مستقبل الأجيال القادمة غامضًا.
كما شهد هذا الجيل تطورًا على مستوى التحصيل العلمي (المقاربة الإجرائية)، وظهور كفاءات علمية وإدارية ساهمت في دفع عجلة التنمية. ورغم أن هذا الجيل تأثر جزئيا بالتغيرات الاجتماعية والثقافية المتسارعة، إلا أنه بقي وفيًّا للقيم الوطنية والثوابت المجتمعية. لقد شكّل همزة وصل بين الجيل الأول المتشبع بالروح الوطنية، والجيل الثالث الذي يواجه تحديات العصر الرقمي والعولمة.
* الجيل الثالث (2022– 2052):
يمثّل هذا الجيل تحديًّا حقيقيًّا للمدرسة الجزائرية، إذ وُلد في خضم تحولات سياسية واجتماعية متراكمة ومعقدة، وانتشار التكنولوجيا الحديثة، وتنامي تأثير العولمة الثقافية، وتراجع سلطة المؤسسات التقليدية وعلى رأسها المدرسة. وقد عرفت هذه المرحلة تراجعًا في فعالية المدرسة كمؤسسة للتنشئة والتكوين، إذ أضحت في كثير من الأحيان عاجزة عن تنمية شخصية المتعلم، وصقل سلوكه، وتحفيزه على الالتزام بقيم المجتمع، رغم تطبيقها لمناهج غربية مستوردة لا تتطابق من عقلية وثقافة المجتمع من جهة ولا مع إمكاناته المادية من جهة ثانية.
كما أن هذا الجيل يواجه أخطارًا حقيقية تتعلق بفقدان المرجعية، والانجراف وراء مغريات المعرفة المفتوحة، من دون توجيه قيمي أو أخلاقي يحصّنه ضد الانحراف. هنا تبرز أهمية إعادة التفكير في وظيفة المدرسة الجزائرية، بوصفها فضاء لإعادة تشكيل الفرد، وبناء وعيه الوطني والثقافي، من خلال مناهج تعليمية تؤسس للهوية وتوازن بين الحداثة والأصالة.
إن مستقبل المجتمع والدولة يتوقف، إلى حد بعيد، على طبيعة الاستثمار الذي يُخصَّص لهذا الجيل؛ فإذا لم يجري اعتماد مقاربة شاملة تُزاوج بين التكوين العلمي الرصين، والتأصيل القيمي العميق، فإن ما بناه الجيلان السابقان سيكون عرضة للتآكل والاندثار.
إن الجيل الثالث للمدرسة الجزائرية جيلٌ مميز، يمتلك من الخصائص ما يجعله مؤهلاً لحمل الأعباء المتراكمة منذ عقود، والسير بالبلاد والمجتمع نحو نهضة جديدة. هو جيلٌ يقف عند مفترق طرق: إما أن يُحدث القطيعة مع السياسات والأساليب الفاشلة السابقة ويؤسس لمرحلة جديدة من البناء والإصلاح، أو أن ينزلق إلى متاهات وانحرافات تزيد من تأزيم الواقع، مما يجعل مستقبل الأجيال القادمة غامضًا، بل من الصعب التنبؤ بما قد تؤول إليه أوضاع المجتمع والوطن معا.
إنّ المجايلة التاريخية للمدرسة الجزائرية تبيّن أن لكل جيل خصوصياته وتحدياته، وأن المدرسة ظلت -رغم العثرات- أداة مركزية في تشكيل وعي الأفراد، وإعدادهم لمواجهة متطلبات الحياة. واليوم، أكثر من أي وقت مضى، بات من الضروري إعادة تأهيل المدرسة الجزائرية بما يضمن تجديد وظائفها التربوية والثقافية، ويعزّز قدرتها على مواكبة التحولات العصرية، من دون مساس بثوابت الأمة وقيمها الحضارية.