المشاركة الشعبية كفرصة من أجل صناعة الشرعية
تقترب الجزائر من استحقاق رئاسي مفصلي في تاريخها المعاصر، وسط رهانات وطنية وإقليمية متعددة، تجعل من المشاركة الشعبية الفاعلة في هذه الانتخابات ضرورة قصوى لصناعة شرعية قوية لرئيس الجمهورية القادم، ففي ظل التحولات العميقة التي يشهدها العالم والمنطقة، تأتي الانتخابات الرئاسية في الجزائر كمحطة مفصلية في مسار تكريس الديمقراطية وترسيخ مؤسسات الدولة، فانتخابات السابع من سبتمبر 2024 ليست مجرد اختيار رئيس جمهورية، بل هي عملية حاسمة تعبر عن الإرادة الشعبية في اختيار برنامج حقيقي ونخبة قيادية يُعتمد عليها لقيادة مستقبل البلاد والشعب في ظل تحديات متزايدة على المستويات الوطنية والإقليمية، والعالمية.
وهنا، وجب أن ندرك بوضوح أن الانتخابات هي المرآة التي تعكس مدى نضج الأمة ووعي شعبها، فالمشاركة الشعبية الواسعة في العملية الانتخابية تمنح الشرعية لمؤسسات الدولة وتؤكد على وحدة الصف الداخلي في مواجهة التحديات، وإذا كانت هناك رسالة يجب أن تُبعث من خلال هذه الانتخابات، فهي أن الشعب الجزائري، بمختلف أطيافه، يقف صفًا واحدًا وراء مسار ديمقراطي يعزز من استقرار البلاد ويسهم في نهضتها، فـ “القيادة الفعالة تأتي من قدرة القائد على الحصول على تفويض شعبي حقيقي، وليس فقط من خلال القوة أو المنصب”.
في هذا الصدد، لا يمكن إنكار أن الانتخابات الرئاسية في الجزائر تأتي في وقت حساس للغاية، حيث تواجه البلاد تحديات اقتصادية وأمنية متعددة، وعلى الرغم من أنه من المستحيل تحقيق رضا كامل لدى كل الأطياف السياسية والاجتماعية، إلا أن هناك برامج وتوجهات إيجابية كبرى ينبغي اختيارها أو دعمها لضمان تجسيد الإصلاحات المنشودة، والمضي بالبلاد نحو أفق جديد أكثر ديناميكية ووضوح لجعل الجزائر والشعب الجزائري في وضع أقوى وأفضل في شتى المجالات وخاصة تلك الاستراتيجية.
ومن هذا المنطلق، يتطلب حسم المعترك الانتخابي لصالح الديمقراطية الجزائرية دعم برنامج انتخابي لمترشح قادر على قيادة البلاد نحو مستقبل مستقر ومزدهر، خاصة وأن قوة الرئيس من قوة تفويض منتخبيه الكاسح، وهنا يذكر المناضل والرئيس الجنوب الإفريقي نيلسون مانديلا في سيرته الذاتية “طريق طويل نحو الحرية” أهمية التزكية الشعبية في دعم وصناعة الشرعية بأن “المشاركة الواسعة تعزز من قدرة القيادة على تحقيق وحدة البلاد واستقرارها”.
بالمقابل، فإن الانتخابات كعملية ديمقراطية هي أسلوب أساسي لتجسيد إرادة الشعب وتمثيل طموحاته في قيادة البلاد، بحسب عالم السياسة روبرت دال الذي يقول بأن “الشرعية لا تنبع فقط من السلطة القائمة، بل من قبول الشعب لهذه السلطة كعكاز لممارسات سياسية متسقة”، لذا فإن الانتخابات تُظهر التزام الشعب بنظامه السياسي من خلال التنافس النزيه الذي يتيح لكل مرشح تقديم رؤيته وبرنامجه، ويمنح الشعب الحق الكامل في اختيار البرنامج الأنسب لقيادة مستقبل البلاد وتلبية طموحات الشعب.
إن التأكيد على دعم الشرعية من خلال المشاركة الشعبية ينبع من كون أن الجزائر تواجه تحديات هامة ومخاطر كبرى تتجاوز مجرد القضايا الاقتصادية، حيث تمتد لتشمل تهديدات أمنية إقليمية معقدة، وقوى حاقدة ومتربصة، فالأوضاع المضطربة في دول الجوار مثل ليبيا ومالي والمغرب تزيد من تعقيد المشهد الأمني والاستراتيجي، خاصة وأن “الاستقرار هو شرط أساسي للتطور الاجتماعي والسياسي”، وهذا يعني أن استقرار الجزائر واستمرار إصلاحاتها هو أمر حيوي للحفاظ على تماسكها الداخلي وتعزيز أمنها، خاصة وأن الاستحقاق الرئاسي المقبل يمثل فرصة ذهبية لتجديد الشرعية الشعبية وتعزيز وحدة الصف الوطني.
ومن هنا، يصبح العمل على تعزيز الاستقرار والتوافق الوطني أولوية قصوى لضمان مواجهة فعالة لهذه التحديات، ولا ننسى في هذا السياق التدخلات والملاحظات والتلاعبات التي تقودها القوى المتربصة للتشكيك في الشرعية الانتخابية ومحاولة الطعن فيها، وهو ما حدث في فنزويلا مؤخرا، بمحاولة زعزعة استقرارها بعد الطعن في النتائج، كما يجب أن نلاحظ أن الحسم الشعبي للرئيس بأغلبية معتبرة، يمكن أن يجنبنا المُناكفات المتعلقة بشرعية الرئيس واستحقاقه المطلق لمنصب الرئاسة ولنا نموذج حي في ما حدث في الولايات المتحدة في 2020، بعد طعن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في شرعية انتخاب الرئيس الحالي جوزيف بايدن واقتحام أنصار ترامب للكونغرس، وهي أحداث تقوض سلامة عملية تسليم السلطة وصورة العملية الديموقراطية.
من جهة أخرى، لا يمكن إغفال أن أعداء الجزائر، سواء من الخارج أم من بعض المعارضين المتطرفين الذين يتقاطعون مع أطروحاتهم أو المرتبطين بهم ويدسون شعارات الوطنية والحرص على مصالح الشعب والبلاد في سُم المجهول والمغامرة وتقويض سلطة الدولة وشرعية ممثليها، حيث يسعون بكل ما أوتوا من قوة لإفشال الانتخابات والدفع بالبلاد نحو الفوضى وعدم الاستقرار، لذلك، فإن الحشد الانتخابي والمشاركة الشعبية الكثيفة في هذه الانتخابات تشكل رسالة قوية لهؤلاء بأن الشعب الجزائري ملتف حول خيار استمرارية العملية الديموقراطية والتداول السلمي على السلطة، ودعم الإصلاحات الضرورية أو التجديد والتغيير لتجسيد البرنامج الذي تحتاجه البلاد.
في هذا السياق، لا بد من التأكيد على أن الانتخابات ليست مجرد منافسة بين مرشحين، بل هي عملية ديمقراطية تهدف إلى إعطاء الشعب حق تحديد من يحكمه، فبغض النظر عن الرئيس الفائز، فإن المشاركة الشعبية الواسعة تعني تعزيز شرعية العملية الديموقراطية وتكريسها المستدام فضلا عن تقوية مركز رئيس الجمهورية، وتحصين البلاد من أي محاولات خارجية للتدخل في شؤونها الداخلية.
يمكن القول إن الاستحقاق الرئاسي المقبل يمثل نقطة تحول مهمة في تاريخ الجزائر، وفرصة ثمينة لتعزيز الديمقراطية وترسيخ ديمومة مؤسسات الدولة، حيث ينبغي على جميع المواطنين أن يشاركوا بفاعلية في دعم العملية الديموقراطية، ليس فقط من أجل اختيار الرئيس، ولكن أيضًا من أجل تأكيد وحدة الشعب واستعداده لمواجهة التحديات، فالمستقبل يصنعه الشعب، والانتخابات هي إحدى أهم الأدوات التي يملكها لتحقيق ذلك، خاصة وأن مشاركة الشعب في الانتخابات هي رسالة قوية لكل من يتربص بالجزائر، مفادها أن الشعب الجزائري يقف صفًا واحدًا في دعم استقرار بلاده وحماية مكتسباتها.