-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

المعرفة القشورية عند المتطاولين على الحجّ

المعرفة القشورية عند المتطاولين على الحجّ
ح.م

من الناس عيٌّ جاهل، إمَّعة، لا تعرف له رأيا، ظلٌّ لغيره “كل على مولاه أينما يوجِّهه لا يأت بخير”، يُكثر من العجاج واللجاج والحجاج بأفكار هالكة مستهلكة، يتلقَّفها وينقلها بغثها وسمينها حتى لو كانت مما يجافي العقل وينافي الحقيقة، وقد ظهر هذا الصنف في المجتمعات العربية والإسلامية منذ مدة، وأتباعه في تزايد بعد أن نجحت العلمانية في استغفالهم واستمالتهم فظنوا أنها المخرج مما يسمونه “تناقضات الطوباويين وشطحات المتدينين”.

نشأتُ على احترام المخالف لأنني أؤمن بقوله تعالى: “قل كلٌّ يعمل على شاكلته فربُّكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا”، ولكنني نشأت أيضا على احتقار الإمَّعة، الذي يلغي عقله ويرضى أن يسبح في فلك الآخرين. للأسف، في عالمنا العربي كثرة كاثرة من هذا الصنف، عجيب الأدوار، غريب الأطوار، انتشر في فضاءاتنا الفكرية مدَّعيا أنه الحق وغيره الباطل، وأنه العقل وغيره اللاعقل، وأنه التنوير وغيره الجهل المركّب.

كثرت سقطات بعض بني جلدتنا وتطورت من نقد الفكر الديني إلى الطعن في الدين، ومن نقد الأشخاص إلى التهجُّم على الرموز الدينية والأحكام اليقينية، ومن هؤلاء نكرةٌ لا يُعرف عنه أنه كثيرُ علم ولا رائدُ فكر ولا صاحب مؤلفات ومصنَّفات ونظريات، فما يقوله وينقله ليس إلا تكرارا واجترارا لما كتبه شحرور وغيره من الحداثيين الذين لا يتردد هذا النكرة في الاعتراف بأبوَّتهم الفكرية.

لا آمن هذا النكرة صاحب المعرفة القشورية على الكتابة في أبجديات علم الأديان، ولكن مع ذلك لا تتردّد بعض قنواتنا الإعلامية في دعوته في كل مناسبة للحديث في كل مسألة وخاصة فيما يتعلق بقضايا الدين التي يُلبسها لبوسا علمانيا يحبِّب إلى ضعاف النفوس وجاهلي النصوص ثقافة التمرُّد على الدين، ومن ذلك ما كتبه على صفحته على الفيسبوك بلغة عربية مهلهلة مدَّعيا أن “الحج والأضحية في الإسلام وثنية، أضفيت عليها هالات البسملة والتكبير”، يقول: “الوثنية شفتوها غير في ينَّاير، ما شفتوهاش في الحج وطقس الدم /الأضحية. هاذي أيضا وثنية زادولها غير البسملة والتكبير”؟!

كلام هذا الإمّعة شُبهةٌ قديمة سبقه إليها بعض المستشرقين، وقد رد عليها علماؤنا بالقدر الكافي والشافي، ولكن لأنه مولعٌ بالأفكار الميتة وقطع الغيار القديمة فإنه لم يتوان كعادته في بعثها من جديد.

ينتمي هذا الإمّعة إلى تيار المعرفة القشورية وجماعة “ويلٌ للمصلين” الذين لا يملكون القدرة على تمييز الأشياء، فيستوي عندهم السكر والملح، والأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور..

بادئ ذي بدء، ولأنني أعلم أن هذا النكرة يحبُّ الانتساب إلى علم الأديان، فإنه من الضروري أن أذكر له بعض ما جاء في موقع الفدرالية الدولية للوثنيين Pagan Federation International- من أن الوثنية تتميز بثلاثة خصائص أساسية: أولها تقديس الطبيعة Nature-Veneration، التي تعني الاعتقاد بأن روحا وقوة غيبية تحلّ في مكان أو شجر أو حجر فتجعله مقدسا، وثانيها تعدد الآلهة Polytheism؛ فالوثنيون يرون أن تعدُّد الآلهة مظهرٌ من مظاهر التعددية والتنوع الاعتقادي، فهذه الآلهة -في تصوُّرهم- تشبه في تعدّدها وتنوّعها المجتمع الإنساني الذي تتعايش فيه جماعاتٌ من خلفيات وثقافات مختلفة، والعنصر الثالث، هو الاعتقاد بالصورة الأنثوية للإله The Goddess، فأين هذه العقيدة الوثنية من عقيدة التوحيد الخالص؟ ليس في الإسلام تقديسٌ لحجر أو شجر أو نهر أو جبل… إن التقديس المطلق لخالق الكون ومالكه ومدبِّره، قال الله تعالى: “ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر، لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون”.

وقد يعترض علينا هذا الإمّعة بالقول إن هذه الصورة التعبُّدية في الإسلام لا تختلف كثيرا عن الصورة الطقوسية في الوثنية، وأن مكمن الاختلاف الوحيد هو أن الإسلام يأمر بالتوجُّه بالعبادة إلى الإله رأسا من غير واسطة، وأن الوثنية تقوم على عبادة الروح التي هي جوهر الإله، وأقول إن الإله الكامل لا يحتاج إلى من يكمله والإله القادر لا يحتاج إلى وسيط يُظهر عجائب قدرته، فقد جاء الإسلام لإلغاء الوساطة والكهانة، وفي ذلك يقول الله تعالى: “وإذا سألك عبادي عني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا به لعلَّهم يرشدون”. إن تعدُّد الآلهة نفيٌ لصفات الألوهية. إن صورة الآلهة المتعايشة أو المتصارعة لا توجد إلا في المخيال الوثني، وهي صورة لا تليق بالله ذي الجبروت والملكوت الذي لا ينازعه أحدٌ في ذلك، قال الله تعالى: “لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا”. ليس في الإسلام عقيدة الإله الأنثى؛ فالله ذاتٌ علوية منزهة عن الشبه وليس ذاتا بشرية حتى توصف بأنها ذكرٌ أو أنثى، وقد أنكر الله قول القائلين بأن الملائكة الذين عند الله إناث، فإذا كان لا يصحُّ هذا في حق الملائكة فكيف يصح في حق الله سبحانه وتعالى؟ قال الله سبحانه وتعالى: “وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا أشهدوا خلقهم ستكتب شهادتهم ويُسألون”.

هذه عمومياتٌ حول الإسلام والوثنية أردتُ أن أبدأ بها قبل الرد على شبهة هذا النكرة بأن الحج وطقس الدم -كما أضاف- “وثنية أضيفت إليها البسملة والتكبير؟!”. حينما نتحدث عن الحج فإننا نقصد الشعائر والنسك المرتبطة به، ومن ذلك رمي الجمرات ونحر الهدي والطواف حول البيت العتيق والسعي بين الصفا والمروة. أما رمي الجمرات فهو فعلٌ تعبُّدي شعائري يرمز إلى طرد الشيطان من حياة الإنسان وملء القلب بحب الله وفضيلة الإيمان، وهو تجديدٌ لما فعله خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لما تراءى له الشيطان يريد أن يثنيه عن تنفيذ أمر الله، فلا يمكن أن تكون شعيرة رجم الشيطان “وثنية”، وهي ترومُ إزالة رواسب الوثنية في النفس الإنسانية ووصلها بالمقامات العلوية النورانية، ولا يمكن أن يكون رجمُ الشيطان “وثنية” وما جاء الإسلام إلا لمحاربتها وتجفيف منابعها بعد أن استشرت قروناً كثيرة في المجتمع العربي والإنساني. إن الإسلام الذي حرر الإنسانية من الوثنية لا يمكن أن توصف شعائرُه بأنها “وثنية”.

وأما ذبح الهدي فغايته التقرُّب إلى الله سبحانه وتعالى، يقول الله تعالى: “والبدن جعلناها لكم من شعائر الله لكم فيها خير فاذكروا اسم الله عليها صواف فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ”، ويقول الله تعالى أيضا: “لن ينال اللهَ لحومُها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم”. ربما قرأ هذا النكرة عن القرابين في الديانات الأخرى، فالقرابين في هذه الديانات يأكل منها المقرَّبون والمقرَّبة إليهم؛ فقد جاء في نصوص العهد القديم أن “الإله تجذبه رائحة الشواء المنبعثة من المذبح فيقبل على القرابين بنهم ويلتهم كل ما يقدَّم له”!

وأما الطواف بالكعبة فيشبه في رمزيته حركة الدوران التي يعيشها الإنسان في هذا الكون نحو الغاية الأسمى، وقد شُرِّع الطواف حول الكعبة ليس لذاتها ولكن تعظيما لخالقها، وشُرع تقبيل الحجر الأسود ليس لذاته ولكن تعظيما وتوقيرا للرمزية الدينية التي يحملها، فقد أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله حينما قبل الحجر الأسود: “إني أعلم أنك حجرٌ لا يضرُّ ولا ينفع ولولا أني رأيت رسول الله يقبِّلك ما قبَّلتك”.

إن بعض الشركيات التي يفعلها بعض الحجاج من التعلُّق بأستار الكعبة والتمسُّح بجبل عرفة والتبرُّك بمنازل وآثار الصحابة رضوان الله عليهم وغيرها ليست من الإسلام، وأما السعي بين الصفا والمروة ففيه رمزية للاستجابة الإلهية بعد الإجهاد الذي أصاب هاجر أم إسماعيل عليه السلام وهي تبحث عن أثر ماءٍ لتروي ابنها ثم استمر هذا شعيرة يؤديها الحجاج، فأين الوثنية؟!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • الواضح الصريح

    المنطق أفضل من الخرافات في تيسير التزلف للسعوديين خدمة لسياحتهم الدينية .

  • Rahma /Italia

    بارك الله فيك... بردتلي قلبي....

  • جلال

    كلنا مع الأسف إمعة .إن نقد الفكر الديني (المبني على تفسيرات وتأويلات بشرية) ليس نقدا للدين والقائل بذلك يريد أن يعطي قدسية لكلامه .هناك إختلافات كثيرة عند الفقهاء وكمثال :هل هو سعي أو طواف بين الصفا والمروة وهل هو ملزم حسب الآية؟وهل ميقات الإحرام قال به الرسول ولم تكن الشام والعراق قد فتحت بعد وما هو ميقات امريكا واستراليا وغيرهم من الأقوام أم الدين خاص بالجزيرة وما جاورها فقط؟ ثم هل الأضحية واجبة على الحجاج فقط أم سائر أهل الأرض كما نلاحظ ولماذا لم يفعلها ابوبكر وعمر وبذلك نيسير على الناس ؟وهناك شركيات يفعلها المسلمون وجب التنبيه إليها من باب النصيحة في الدين فقط

  • جلال

    لا تنهى عن منكر وتأتي مثله عار عليك (وجادلهم بالتي هى أحسن) لقد فتحت على هذا السيد قاموس شتائمك وسبابك مع أنني أول مرة اسمع به أي أنت واحد من روج له. إن الشركيات مع الأسف معممة في المجتمع الإسلامي وليس فقط في الحج وهذا الذي يجب التنبيه إليه بالنقد .والفحص والتمحيص يوجه الى الأراء و الأفكار البشرية المرتبط بالدين الذي أعطيناها قداسة دينية وليس الى الدين والإختلافات الفقهية في الحج وغيره ليست وليدة اليوم .أن إحتكار المعرفة الدينية والقول :من أنت لكي تبدي رأيك؟ نقول بلسان الأفغاني: “ملعونٌ في دين الرحمن: مَن يخنق فكرًا، مَن يرفع سوطًا، مَن يُسكِت رأيًا، من يبني سجنًا، من يرفع راياتِ الطغيان....