النقلة الحضارية في شمال أفريقيا بعد دخول الإسلام
عن دار النهى للنشر والترجمة والتوزيع، صدر مؤلف جديد للدكتور عبد السلام فيلالي، عنوانه “من روما إلى الإسلام…عن النقلة الحضارية في شمال أفريقيا”.
تبعا لإشكالية ومنهجية هذه الدراسة، نقرأ عناوين ثلاثة فصول، حيث الفصل الأول معنون بـ: “من روما إلى بيزنطة، المعالم والتغيرات”، والمقسم إلى أربعة مباحث، إذ يعرض باحثنا المقدمات ذات العلاقة بالنقلة الحضارية، فيما يتعلق بمحددات الرومنة ومضامينها المعرفة للمجتمع الشمال أفريقي، ثم التغيرات التي ستدخل عليه خلال الحكم الوندالي والبيزنطي، وخاصة ما تعلق بوضعية المسيحية وانحسار نفوذ كنيستها أمام خصومها من “النموذج التوحيدي”، الدوناتيون والأريوسيون. ثم ما سجل من بروز للقبائل المورية وتأسيس ممالك بين القرنين الخامس والسابع، وتناولنا أيضا تأثير التغيرات المناخية التي أدت إلى وقوع كارثة كبرى مثلما وصفها مؤرخونا.
وحمل الفصل الثاني، عنوان: “الفتح الإسلامي… عناصر التحول الحضاري والتفاعل”، وقد تضمن أربعة مباحث، أين عالج المؤلف إشكالية المصادر التاريخية وما ينتج عنها من أطروحات فيما يتعلق بالفتح الإسلامي وأبرز مظاهر الأسلمة، وأيضا تحليل ما سمي الثورات التي ارتبطت تحديدا بالنزعة الخارجية.
أما الفصل الثالث، والذي جاء تحت عنوان “مظاهر التحول.. عناصر إجابة”، ففيه يعرض المؤلف أهم مظاهر التحول الحضاري بعد اعتناق وانتشار الإسلام، فيما يتعلق بالتسمية الجديدة وما جلبه علم الأنساب والأسماء من مدونة تاريخية جديدة، ثم أهم وأبرز مظهر من هذا التحول الحضاري فيما يتعلق بانتشار اللغة العربية والتغير العرقي-الاجتماعي.
وأخيرا، قدم مقاربته حول اختفاء المسيحية من ناحية دراسة الأسباب وتقديم تقييم عام.
ظاهرا -إذن- من عنوان هذا الكتاب أن الدكتور فيلالي يتناول مرحلة تاريخية للجزائر على وجه الخصوص وشمال أفريقيا عموما، بما أصطلح عليها “النقلة الحضارية”، حينما تحولت الرسالة الإسلامية إلى دعوة، ومن دعوة إلى حضارة. انتشارها كان من الحوادث الكبرى التي شهدتها البشرية، إن على صعيد المجال المكاني أو المدة الزمنية. بخلفية الأسئلة التي ما تزال تثار حول اندثار تأثير روما (La romanité) من أفريقيا الشمالية، والتي يرى باحثنا أنها ترتبط بظاهرة الفتح الإسلامي التي أدت إلى اعتناق أهل منطقة شمال أفريقيا الدين الإسلامي عن قناعة وتمسكهم به عن قناعة، فشكل رؤيتهم الجديدة للعالم وهويتهم التي يعتزون ويتمسكون بها.
نقلة حضارية أو قطيعة فيما يتعلق أيضا باختفاء المسيحية واللغة اللاتينية أساسا، انطلاقا من حكم أنه لم تحدث عمليات اضطهاد أوصلت إليه، فاستدعى الأمر العودة إلى تحليل الأوضاع التي استجدت في مقاطعة أفريقيا بعد سقوط روما، المنطقة التي تمتد من برقة إلى طنجة وبالتالي فهي لا تتضمن مصر.
أجزاء من عناصر الإجابة كانت تبلورت – حسب المؤلف- من خلال المضامين والنتائج التي وردت في كتابه “الجزائر خلال حقبة الوجود الروماني… عبقرية المكان وتمظهرات القوة”.
إن تتبع مسار بروز وتطور هذا التحول، استدعى البحث في الأسباب تبعا للأحداث المفصلة فيما يخص انتشار الإسلام ثم ما انبنى عليه من مذاهب وكيانات سياسية والتغيرات التي رافقت ذلك.
ويضيف فيلالي أنه رغم ما يبدو من أن الإجابة موجودة تبعا للأدبيات المنتجة، إلا أن نقاط ظل تبقى قائمة، حيث تتميز بغياب نصوص راهنة لزمن الأحداث أي الفترة الممتدة من نهاية القرن السابع وبداية القرن التاسع.
كما أنه يعتبر هذا التحول الحضاري، النقلة، الذي صار معرفا للعهد الجديد، بأنه مفارقة، حيث صار هو الأصل وليس التفرع، يوعز ذلك إلى الأرضية التوحيدية الخصبة في مرحلة أولى ثم المسار الذي عبرته مع اعتناق وانتشار الإسلام وتشكل رابطة أمة، وبعد ذلك توحيد المرجعية الفقهية مع دخول المذهب المالكي إلى بلاد المغرب زمن حكم الأغالبة، وتحول أفريقية إلى حصن منيع لمذهب السنة والجماعة على حساب المذاهب الأخرى: المذهب الخارجي في مرحلة أولى ثم المذهب الشيعي. ولاحقا ما شهدته بلاد المغرب من انتشار اللغة العربية والتغير العرقي-الاجتماعي ابتداء من منتصف القرن الحادي العاشر نتيجة الهجرات العربية، أو ما سمي “هجرة قبائل بنو هلال”، الحدث الأبرز و”الأخطر” بالنسبة للبعض.
ولهذا قام -كما ينبه المؤلف- بتحليلها من عدة زوايا، من خلال السعي إلى طرح صورة توضح طبيعة الحدث وتأثيراته الممكنة، بدءا من عددهم الإجمالي الذي قدرنا، وفق للمعطيات المتوفرة والظروف التاريخية المحيطة به، أنه لا يمكن أن يتجاوز المائة ألف فرد، ولا يمكن النزول أدنى من ثلاثين ألف.
بعد الفتح وانتشار الإسلام، يعالج الدكتور عبد السلام فيلالي التغير الثاني الذي جلب التحول الثاني الأكبر، يتعلق الأمر بانتشار اللغة العربية وتعديل البنية الاثنية.
فيما يخص انتشار اللغة العربية، فسره الباحث بتعويضها للغة اللاتينية، وهي صارت لغة حضارة سطعت بإسهامها الكبير.
وعن تعديل البنية الاثنية، لم يكن الأمر يتعلق بالتقاء إخوة الدين فقط، بما نتج عنه من بروز تركيبة سكانية جديدة استقرت بعد ثلاثة قرون من التفاعل والاختلاط، دعمها تشابه أنماط العيش للقبائل، العامل الديني فيها كان هو العامل الأساس فيما يخص هذا التحول.
وفي الأخير يقدم الباحث خلاصته فيما يتعلق باختفاء المسيحية من شمال أفريقيا، بأن ذلك راجع إلى فقدان الدافعية الذاتية التي تسمح لها بمقاومة التلاشي وتمنح المؤمنين قوة الاتحاد والصمود، وذلك يكون من خلال نخبة دينية مدركة للتحديات ومرتبطة بأصول وأمجاد كنيستها.
كانت هذه العوامل تعمل بشكل مستمر خاصة أنه لم يبرز تدخل خارجي يعيد لها الحياة، حيث يرى الباحث أن أمر الأسلمة قد تكرس وتدعم بإسهام البربر أنفسهم، إذ لم يعد أمر الدين الإسلامي شأنا عربيا بل يخص أخوة دينية (الأمة) راحت تتمظهر في مختلف المحطات الحاسمة وخاصة في مواجهة الغزوات المسيحية.