-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع
رحلة مع ذي القرنين

النّفخ الموجّه.. إنجاز

أبو جرة سلطاني
  • 1288
  • 0
النّفخ الموجّه.. إنجاز

أوقد بين فجوات الحديد نارًا، وأمرهم أن ينفخوا فيها صنيعَ الأفران عاليّة الصّهر التي تذيب قطع الحديد وتحوّلها إلى كتلة متماسكة عازلة: ((… انفُخُوا…)) (الكهف: 96)، لتأجيج النّار بالنّفخ المتوالي من جهة واحدة تتحوّل معها المعادن الصّلبة إلى سوائل منصهرة: “حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آَتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا” الكهف: 96، أفرَغ َعلى الحديد المتلاحم سائلَ النّحاس.

هي نظريّة قديمة في صهر المعادن صارت اليوم تقنيّة عاليّة في تذويب الفولاذ وتمتينه بعلميّة مجرّبة لتقويّة المعادن ودعمها بخامات النّحاس على درجة حرارة عاليّة شبيهة بالحمم البركانيّة. ولمّا فرغ من هذه العمليّة وبردت المعادن وتماسكتْ قِطعُ الحديد بسائل النّحاس المُذاب بتأثير النّفخ المؤجّج للّهب بدا السدّ بديعا رائعا شاهقًا أملسَ لا تستطيع يأجوج ومأجوج الظّهور عليه بالصّعود فوقه واعتلائه ولا بإحداث نقب فيه.

اكتشفوا أنّهم أُخذوا على حين غرّة. وأنّ المنفذ الذي كانوا يتسلّلون منه للعيث في الأرض فسادًا تمّ ردْمه بذكاء وسدُّه بإحكام. وأنّ مهندس سدود بديعة قد منّ الله به على هؤلاء الأقوام فضرب بينهم وبين عدوّهم بسور حديديّ فاصل بين الخير والشرّ. وأنّ النّحاس المُذاب قد صنع جسْما أملسَ فوق كتلة الحديد يستحيل عليهم تسلّقه بظهور عليه كما استحال عليهم إحداث ثقوب في قاعدته الصّماء للنّفاذ منها لشدّة صلابتها: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا)) (الكهف: 97).

  • فلا حيلة لهم على إحداث ثقب في قاعدته.
  • ولا وسيلة تمكّنهم من تسلّقه.

هكذا تحقّق مقصد الحجْز بين هؤلاء الأقوام وبين يأجوج ومأجوج. وهكذا تبدّدت أطماعهم في توسيع دائرة الفساد، وبهذا تحقّقت أحلام من كانوا لا يكادون يفقهون قولا بإقامة سدّ بتعاون وتكافل وتضامن لم ينفقوا في ردمه دينارا واحدًا من أموالهم لقاءَ عمل يديْ ذي القرنيْن ولا من أجل اقتناء الحديد والنّحاس لبنائه. فالذّكاء الذي أوتيه ذي القرنيْن كفاهم ما كانوا يأملون.

لمّا رأوا ما أنجز تأكدوا أنّ الحديث الكثير عن بناء سدّ لم يقم لهم لبنة واحدة. وأنّ أحلامهم كانت بحاجة إلى عزم وإلى أخذ بالأسباب. وأنّ “الفقه البارد” لا ينْبني عليه عمل ولا يتقدّم بالمتفيْقهين خطوة واحدة على طريق التّمكين في الأرض. وأنّ كلّ كلام لا يترتّب عنه فعل هو لغوُ بشر أقرب إلى ثغاء الخراف منه إلى منطق الإنسان.

وهذه حقيقة أدركها هؤلاء القوم بعد ما رأوا بأعينهم أنّ ما كان حلما بالأمس صار اليوم حقيقة. وأنّ فقههم للحياة كان فقهَ جدلٍ نظريّ حالم بشهوة العمل وأماني الإنجاز ولكنّه -كفقه الأوراق- لا يقيم معروفا ولا يغيّر منكرا كونه لغوَ حديث لا صلة له بحركة الحياة ولا بما يحدث في القلب تحريضا على العمل. فهو لغو حديث سابح في فراغات التّنظير المريح لصاحبه بإقناع النّفس أنّه تحدّث ونصح وتمنّى.. ولم يجد عزمًا.

لما رفعهم ذو القرنين من حضيض الفقه البارد إلى سقف الأخذ بالأسباب اكتشفوا أنهم كانوا يعيشون خارج زمنهم؛ فجدالهم الكثير وتلاومهم المستمرّ كان ثمرة فصام بين الحلم والواقع أو بين النّظريّة والتّطبيق. وكان عليهم أن يردموا الفجوة التي في عقولهم قبل الخوض في ردْم ما بين الصّدفيْن.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!