الهوية وحرية التعبير

حدد الدستور الجزائري الثوابت الوطنية، أي عناصر هويتنا الوطنية، ونص على رفض أو إدانة إعادة النظر فيها. لكنه يُدافع أيضًا عن حرية التعبير، مما يشكل تناقضًا جوهريًّا؛ إذ تفترض حرية التعبير تحديدًا إمكانية التعبير، بما في ذلك عن الثوابت الوطنية التي تتطور كأي شيء آخر.
نواجه هذه المشكلة، هذه المعضلة تقريبًا، باستمرار في العديد من الدساتير وفي الكثير من البلدان. إنه تناقض موضوعي بين ضرورتين متعارضتين، إحداهما تُنظم وتُقيد في نقطة معينة حرية التعبير، والأخرى تحميها. يجب إدارة هذا التناقض بالتمييز الواضح بين المجال السياسي والمجالات الفكرية والعلمية. ومع ذلك، هذا ما ينساه السياسيون في كل مكان تقريبًا، أحيانًا لأسباب وجيهة، منها أن إدارة مسألة الهوية الوطنية حساسة للغاية سياسيّا، غير أن الإدارة السياسية ليست الإدارة الفكرية أو العلمية أو الأكاديمية.
بحكم التعريف، لا نمارس السياسة في الجامعة أثناء البحث والتدريس؛ فالقضية التي تهمّ الأستاذ الباحث، أي العلمي، هي المعرفة. أما القضية التي تهمّ السياسيين فهي السلطة.
“المراجعة”
نادرًا ما كان العلم والسلطة متوافقين؛ فالأستاذ الباحث في مختبره، وفي قاعة محاضراته، لا يُفكر في الحكم أثناء عمله. إنه يعمل من أجل وطنه. في الجامعة، وفي مركز الأبحاث، وفي المختبر، يفكر الناس ويناقشون ويتساءلون ويشككون. الشك هو المحرك الرئيسي للبحث وللتفكير العقلاني، العلمي. ماذا يبقى من الجامعة الوطنية إذا كان كل شيء فيها يتألف من حقيقة مُنزَّهة، مُقدَّسة، دينية، أو سياسية؟
حتى الدول التي تُسمَّى ديمقراطية ليست بمنأى عن الخلط بين السياسة والمعرفة. وهكذا، في فرنسا مثلا، صدر قانون، هو قانون غايسو لعام 1990، ضد المراجعة فيما يتعلق بـ”الهولوكوست”، معتبرا أي تشكيك في وجهة النظر الرسمية والرواية “المُقدَّسة” حول هذا الموضوع جريمة. بمعنى آخر، هذا القانون الذي جرى تسميته “قانون ضد المراجعة” وأنشأ رسميًّا تهمة “المراجعة”، التي تُشبه إلى حد كبير محاكم التفتيش، يعتبر ذلك التاريخ قد كُتب بصورة نهائية، ويرفع سيف الدولة في وجه كل بحث تاريخي يبتعد عن الرواية الرسمية لـ”الهولوكوست”. وقد جرى توظيفه في العديد من التلاعبات ضد حرية التعبير، بل وحتى ضدّ القضية الفلسطينية، إذ تريد الصهيونية أن ترى”المراجعة” في “رفض إلصاق صفة الإرهاب” بحماس وهجوم 7 أكتوبر 2023 على نظام المراقبة والاحتجاز العسكري الإسرائيلي في غزة.
من المؤسف أنه في الجدل الأخير حول قضية الهوية، تبنّى مسؤول حزب سياسي في الجزائر مصطلحًا مثل “المراجعة”، من دون أي تمييز فيما يتعلق بأصله أو أهدافه أو إساءة استخدامه.
النظريات والبحوث العلمية “مراجعة” بحكم طبيعتها، سواء في العلوم الإنسانية أو الاجتماعية أو العلوم الدقيقة، فهي تراجع المعرفة كلما تقدّمت. وقد عُدِّل دستورنا نفسه عدة مرات بشأن قضية الهوية، مُقدِّمًا الهوية الأمازيغية بقوة أكبر من أي وقت.
الأستاذ الجامعي وحرية التعبير
عندما يُنتج أستاذٌ جامعي عملاً أو يُعبّر عن رأيه حول نقطة مُحددة من تاريخنا، ومن ثم يقدّم مقاربة مُعينة لهويتنا التاريخية، لا يُمكن أن يلام لأنه يُؤدي دوره، لاسيما عندما يكون تخصصه التاريخ.
وتفضيل مصطلح “بربري” على “أمازيغي”، على سبيل المثال، ليس مأساة، ولا يُمثّل “نهاية العالم” في مسألة تتعلق بتاريخ بلدنا. جرى استعمال تسمية “الحركة الثقافية البربرية”: هل شكّل هذا مُشكلة؟ هل أساء للهوية الأمازيغية؟ كلا. لذا يجب وضع الأمر في نصابه الصحيح.
الأستاذ الجامعي لا يقوم هنا سوى بعمله. من ذا الذي يُمكنه القيام بذلك إن لم يكن الأستاذ الجامعي؟ الدولة هي التي اعترفت بكفاءته، فلنتذكر أن لقب بروفيسورالجامعات هو لقب دولة يأتي بعد لقب دولة آخر، وهو لقب دكتور. ألم تكن الدولة نفسها هي التي منحته هذا الحق، بل هذه المهمة المتمثلة في التدخُّل في مجاله؟ ألم يكن أقرانه أنفسهم، بمنحهم له هذا اللقب، معترفين بكفاءته في الحديث عن مجاله؟ لذا عندما نسمع شخصا، وهو زعيم حزب سياسي، يتحدث عن “أستاذ مزيف”، ينتابنا القلق من هذا الانزلاق وهذا الازدراء للجامعة المثيرين للاستنكار من دون شك. إلى أين نحن ذاهبون؟
عندما يُجري هذا الأستاذ مقابلة على قناة تلفزيونية أو أي وسيلة إعلامية، فهو يجريها تحديداً لمكانته كأستاذ جامعي ولكفاءته في تخصُّصه. هل يتوقف عن كونه أكاديمياً وباحثاً علمياً بمجرد مغادرته قاعات المحاضرات ومراكز البحث؟ هل يجب عليه حينئذٍ أن يطلب الإذن بالتحدُّث؟ أم أن المقصود هو أن النقاش حول المسائل المتعلقة بالتاريخ، وتكوين هويتنا، والتفكير والتفكُّر في هذه القضية قد انتهى إلى الأبد؟ ومن ثم، لن تكون هناك حاجة لإجراء أي عمل أو بحث تاريخي أو ثقافي أو أنثروبولوجي عن الجزائر، في ماضيها الممتد لآلاف السنين. وإذا أُجريت، فهل ستُحجب نتائجها حالما يُشتبه في انحرافها عن الأطروحة الرسمية؟
لا شك أن مسألة ثوابتنا الوطنية بالغة الأهمية سياسيّا، والدليل على ذلك أنها تُطرح كشغل شاغل في مناسبات عديدة من تاريخ ثورتنا الوطنية، وفي التعريفات والصياغات المتتالية التي وُضعت لها، بدءًا من تلك الشهيرة التي طرحها الشيخ بن باديس، وصولًا إلى تلك التي صيغت في بيان الفاتح من نوفمبر، وفي برنامج الصومام، وفي مختلف الدساتير والوثائق الأساسية للثورة الجزائرية. لقد اضطرَّت أمتنا بالفعل للدفاع عن هويتها ووحدتها، وحمايتها في الظروف العصيبة، وصون نفسها ضد من ينكرها. ولا تزال هذه الضرورة قائمة، ولكن لتحقيق ذلك، هل يجب أن نجعل من قضية “الثوابت الوطنية”، هذه سيفا مسلطا على كل واحد، يعاقبه على أدنى انحراف؟ انتبهوا، لأن هذا قد يرتدُّ على من يحاول استغلاله.
السياسة والعلم
إنكارُ ثوابتنا شيء، ومناقشتها شيءٌ آخر. والدليل على ذلك أن هذه المسألة تطورت مع إدخال التمازيغت كثابت لغوي وطني أولًا ثم رسمي. يجب أن نميز بوضوح بين المجالين السياسي والحزبي من جهة، والفكري والأكاديمي من جهة ثانية، وسياقاتهما ودوافعهما في كل مرة، وإلا فإننا نتجه نحو كوارث في نظامنا العلمي والتقني لإنتاج المعرفة وتوزيعها.
السياسة تخضع، قبل كل شيء، لموازين القوى. أما المجال العلمي، فيخضع لميزان قوة وحيد: ميزان الحقيقة، حقيقة الوقائع التي برهنت عليها المنهجية التجريبية منذ غاليليو، باختصار، الحقيقة العلمية.
ومن البديهي أن العلم إذا خضع للسياسة، فإنه يموت. وكان القادة العظماء عبر التاريخ وحدهم قد أدركوا ذلك فخلّدوا ذكراهم.
يُشكك العلم باستمرار في “الحقائق”، جزئيًّا أو كليًّا. ينبغي أن لا تكون الأمازيغية وحدها، بل العروبة نفسها، موضوعًا للنقاش والتفكير النقدي. الرهان الأساسي يتعلق بحرية التعبير، فمن دونها لا نقاش، ولا تطور فكريا. لا شك أن الحدود يجب أن تكون موجودة دائمًا، وإلا ستتشوَّه الحريات نفسها، لكن ينبغي أن تقتصر هذه الحدود على المجال السياسي فقط، مجال الأفعال السياسية، ومنها استخدام مسألة الهوية لتبرير المساعي الانفصالية وغيرها، لا على مجال التفكير النقدي، أو النقاش الفكري. الفرق بين المجالين واضحٌ وجلي دائمًا. بالطبع، لا يعيش الأساتذة الجامعيون والأكاديميون في عزلة، وهم أيضًا عرضة للتأثيرات الأيديولوجية والحزبية كغيرهم، لكن لا ينبغي استخدام هذا كذريعة لإنكار الخصوصية الاجتماعية لدور العلم.
من اللافت للنظر أن البحوث الأنثروبولوجية حول الهجرات والثقافات، ومن ثم الهوية، لم تشهد نموًّا كالذي بلغته سوى منذ رفع الحاجز الأيديولوجي الاستعماري، فعلينا ألا نعوِّضه بآخر. هذه المسائل علمية، لذا يجب تناولها حسب طبيعتها. من المخاطرة بمكان أن يدّعي أي شخص أو أي جهة أنه استنفدها.
ما زلنا في بداية اكتشافات عظيمة في هذا المجال، وهي ستتزايد كلما زاد تحرُّر العالم من قيود التغريب، وزاد تحرُّر الإنسانية من الأحكام المسبقة ذات الطبيعة القومية والشوفينية والإثنية والمركزية العرقية. وهكذا، وفي امتداد غير متوقع ومسلّ بعض الشيء، يُثار اليوم تساؤل حول المصادر الرومانية واليونانية للهويات الغربية. وقد صدرت أعمال عديدة حول هذا الموضوع تحمل عناوين مضادة للامتثال نوعا ما. لنذكر على وجه الخصوص أعمالا مثل المؤلف الضخم للدكتور عبد الرحمن بنعطية (“العرب، أجداد الغال”) (1)، أو كتاب بيير روسي (“مدينة إيزيس” إذ يؤكد أن “اليونانيين هم ورثة العرب فقط”) (2)، أو كتاب هنري باسي (3)، وجونبروفوست “أجدادنا العرب”، أو مقال صحيفة “لوبوان” الفرنسية، “كلنا عرب” (4).
إن مسألة الهوية، إذا ما عولجت بعقلانية، يمكن أن تتعزَّز اليوم بنتائج التطور المذهل لعلم الوراثة، الذي يُنتج بياناتٍ علميةً قيّمةً عن سكان شمال إفريقيا، وأصولهم، والهجرات الكبرى في هذه المنطقة عبر التاريخ، ويتتبّع من خلالها نشأة الهوية البربرية أو الأمازيغية وتاريخها، وكذلك الهوية العربية. كما تشهد علوم الأنثروبولوجيا والآثار وما قبل التاريخ والتاريخ تطوراتٍ استثنائيةً تُلقي ضوءًا متزايدًا على نشأة عناصر هويتنا الوطنية وتطوّرها.
فلندع الجامعة تؤدي وظيفتها، وحينذاك ستؤدي السياسة وظيفتها على نحوٍ أفضل بكثير.