باريس وأبوظبي.. رسائل ودية في انتظار الملموس

تحمل الرسائل والاتصالات الهاتفية التي تلقاها الرئيس عبد المجيد تبون من قادة دول عربية ودولية دلالات مهمة تعكس العلاقات القوية التي تربط الجزائر بهذه الدول، كما تعتبر مؤشراً لمستقبل العلاقات التي تسعى العواصم العربية والغربية لبنائها مع الجزائر بعد انتخاب الرئيس تبون لعهدة ثانية يوم 7 سبتمبر الماضي. تعتبر هذه التهاني بداية جديدة لتعزيز التعاون في مجالات متعددة، مثل الاقتصاد والأمن والثقافة. كما تعكس رغبة هذه الدول في تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع الجزائر، خاصة في ظل التحديات الإقليمية والدولية الحالية.
تجديد الدول الصديقة استعدادها لتعزيز علاقاتها وشراكتها مع الجزائر ليس بالأمر المفاجئ، بل يعكس الروابط التاريخية والتعاون المستمر، بالمقابل، نجد بعض الدول التي لا تتوافق مواقفها مع الجزائر في بعض الملفات، وقد سعت لاستغلال الحدث الرئاسي كفرصة دبلوماسية لإعادة فتح قنوات التواصل، على غرار الإمارات العربية المتحدة، حيث أجرى رئيسها محمد بن زايد آل نهيان، اتصالًا هاتفيًا بالرئيس تبون رغم وجود خلافات بين البلدين، كما قام الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بإرسال مبعوثة خاصة، كلير لوجوندر، مستشارته لشمال إفريقيا والشرق الأوسط، لتقديم التهاني بعد ساعات من نشر بيان رسمي على الموقع الرسمي للإليزيه.
بوقعدة: الخطوة الفرنسية ليست مؤشرا لنهاية حالة الأزمة بل سعي للدفع نحو ذلك
هذه التحركات تعكس رغبة باريس وابوظبي في تحسين العلاقات وتجاوز العقبات، مما يفتح المجال أمام تعاون جديد في مجالات متعددة، وقناعة هذه الدول بأهمية الجزائر ودورها المحوري في المشهد الإقليمي والدولي.
تعبير الرئيس الفرنسي عن رغبته في إعادة بعث الحوار بين الجزائر وباريس، ما هو في الأصل إلا محاولة “لاستعطاف” الجزائر ومبادرة لإعادة الدفء للعلاقات الثنائية التي عرفت جمودا في الصائفة الماضية بسبب الموقف الفرنسي الداعم لمسمى “خطة الحكم الذاتي” المغربية الواقعية في ملف الصحراء الغربية، على الرغم من أن القضية مسجلة في الأمم المتحدة في لجنة الرابعة الخاصة بالمسائل السياسية وإنهاء الاستعمار، وهو موقف أزعج السلطات الجزائرية التي قررت سحب سفيرها مما أدى إلى دخول العلاقات الثنائية في نفق مظلم.
العودة إلى التعاون مجددا لا تتحكم فيها البيانات الفضفاضة ولا الرسائل الخطية، بل بحاجة إلى مبادرات حقيقية ملموسة تشمل كل الملفات العالقة بين البلدين ومناقشتها وفق مبدأ الندية والمصالح المشتركة، بالإضافة إلى إظهار نية حقيقية تقنع بها باريس السلطات الجزائرية بخطئها الذي تسبب في تجميد العلاقات.
علاقات الدول تخضع للمصلحة المشتركة ولا تُبنى على العداء أو الصداقة الدائميْن
الموقف الجزائري حول ما بعد سحب السفير كان واضحا، حيث عبر عنه وزير الشؤون الخارجية أحمد عطاف الذي قال إنه “سيتم استنتاج كل ما يجب استنتاجه في إطار تحضير الرد على الخطوة التي أقدمت عليها فرنسا”.
في هذا الشأن، يرى مراقبون بأن العلاقات الجزائرية-الفرنسية لها خصوصيات تتحكم فيها، خاصة التاريخية منها، والخلافات لا تؤدي حتما إلى القطيعة، إلا أن مبادرة الرئيس الفرنسي تنتظر خطوات أخرى ملموسة.
في هذا الشأن يقول البروفيسور توفيق بوقعدة، استاذ العلاقات الدولية، بأن الخطوة الفرنسية نحو الجزائر “لا يمكن التأسيس لها بأنها بمثابة انتهاء حالة الأزمة وانما هو سعي في اطار مسار من اجل الدفع لتحقيق ذلك”. لكن الزيارة في حد ذاتها مؤشر ايجابي، غير أنه يجب التساؤل: ماذا تغيّر حتى يمكن طي صفحة أسباب الأزمة؟
وهذا في رأي المحلل “خاضع لميزان المصلحة وقراءة كل طرف لمصالحه لعودة او استمرار القطيعة الدبلوماسية بين البلدين”، مضيفا أن “العلاقات الجزائرية الفرنسية يغلب عليها منذ الاستقلال الطابع الأزْموي، وليست هذه المرة فقط او ما قبلها، والسبب معلوم، وهو الخلاف حول القضية المركزية (الذاكرة)، بالإضافة إلى قضايا ثنائية تقليدية او مستجدة مع تطور العلاقات وتشعباتها الاقتصادية، التجارية والثقافية والسياسية، او المواقف حول القضايا ذات الاهتمام المشترك”.
عودة التعاون مجددا لا ترسمها التهاني ولا الرسائل الخطية بل المبادرات الحقيقية
من جهة أخرى، وفيما يتعلق بالعلاقات الجزائرية-الإماراتية التي دخلت في أزمة غير معلنة رسمية، قد تجد في تهنئة الرئيس محمد بن زايد فرصة لمراجعة ابوظبي لمواقفها تجاه الجزائر والتعامل وفق ما يقتضيه مبدأ الأخوة ولا تكتفي بالإعلان عن نية التعاون، بل تعمل على اتخاذ خطوات ملموسة تجسد هذا التعاون على أرض الواقع.
في هذا الملف، يلح بوقعدة على ضرورة طرح الملف على طاولة النقاش، قائلا “يبدو أن تقدير الموقف استلزم عدم الانجرار وراء اللمز الاعلامي ويجب وضع نقاط الخلاف على طاولة المباحثات والتوافق على ما تم الاتفاق عليه وتحديد قواعد الاشتباك الدبلوماسي والاقتصادي فيما اختلفا عليه”.
تستند العلاقات بين الدول إلى مبدأ المصلحة المشتركة، ولا تُبنى على العداء الدائم أو الصداقة الأبدية، بل تتأثر هذه العلاقات حسب توجيهات ومصالح كل دولة في مختلف الملفات المطروحة. ورغم تباين المواقف والرؤى بشأن بعض القضايا، فإن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى قطيعة، حيث يبقى مجال التعاون قائمًا وفق مبدأ “رابح-رابح”.
في هذا الشأن يضيف ذات المصدر أن “العلاقات بين الدول كما يخبرنا بذلك تاريخ العلاقات الدولية تتأرجح بين الحرب والسلم بين التعاون والصراع والتنافس والاندماج، ومقياس كل اتجاه تحدده المصالح، فلا توجد عداوة دائمة ولا صداقة دائمة في عرف العلاقات الدبلوماسية”.