برلمانيّون فرنسيون: على باريس الاعتراف بجرائم الدولة في الجزائر

يرى السيناتور الفرنسي، رافاييل دوبي، أن فرنسا ملزمة بتحمل مسؤولياتها التاريخية، عبر الاعتراف بماضيها في الجزائر، وخاصة ما تعلق منه بالمجازر التي ارتكبتها منذ بداية الغزو في 1830، كما يشكل الاعتراف بمجازر الثامن من ماي بداية في مسار الذاكرة الذي يكون دومًا طويلاً ومعقدًا، على حد تعبيره.
من جهتها، تؤكد المنتخبة عن حزب “فرنسا الأبية” بإقليم سين سان دوني ورئيسة جمعية “الاتحاد الفرنسي الجزائري للتضامن والتجديد”، كريمة ختيم “أن تاريخ الثامن من ماي 1945 ليس مجرد تاريخ ارتُكب فيه جُرمٌ من طرف الدولة الفرنسية، بل هو جزء من سلسلة طويلة من العنف الاستعماري المسلط على الشعب الجزائري منذ عام 1830: من معسكرات الاعتقال، إلى الإحراق بالدخان، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والتجارب النووية. إنها قصة ألم، ولكنها أيضًا قصة مقاومة، حمل لواءها رموز خالدة مثل الأمير عبد القادر، والشيخ المقراني، والشيخ أمود آغ المختار.”
- رافاييل دوبي: وجهنا رسالة إلى ماكرون لإصلاح العلاقات
- “صدقية الخطاب الفرنسي تمرّ عبر تحمّل مسؤوليتنا التاريخية”
- كريمة ختيم: استمرار نفس الآلة الاستعمارية في الصحراء الغربية
وفي تصريحات لـ”الشروق” عقب عودتهما إلى فرنسا، بعد مشاركة ضمن وفد من النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي، إلى جانب عدد من المنتخبين المحليين، في فعاليات إحياء الذكرى الـ80 لمجازر 8 ماي 1945 والتي خلفت 45 ألف شهيد، في سطيف وقالمة وخراطة. قالا إن الدفع نحو اعتراف فرنسا بمسؤوليتها عن الجرائم، أصبح أكثر من ضروري من أجل انطلاقة جديدة في علاقة البلدين، تبنى على الصدق وعدم الإنكار.
إلى ذلك، قال السيناتور رافاييل دوبي: “تميّزت هذه الذكرى بطابع خاص، كونها تتزامن مع الذكرى الثمانين لهزيمة النازية، ما أضفى عليها رمزية استثنائية. وقد بدا لي غياب تمثيل رسمي فرنسي عن هذا الحدث أمرا غير مقبول. فالمعطيات التاريخية ثابتة، حتى وإن دار الجدل حول العدد الدقيق للضحايا”.

رافاييل دوبي. صورة: Marc Salvet
وأضاف دوبي: “لطالما اعتبرت أنّ صدقية الخطاب الفرنسي تمرّ عبر تحمّل مسؤوليتنا التاريخية. أن تكون قدوة يعني ألا تُنكر الحقائق، حتى في أكثر فصول تاريخنا ظلمة. من هنا، رأينا – أنا وزملائي في مجلس الشيوخ – أنه من واجبنا المساهمة في استمرارية الذاكرة الوطنية، في وقت تشهد فيه العلاقات بين السلطات التنفيذية في البلدين نوعا من التوتر”.
واندرجت تلك المبادرة ضمن إطار مجموعة عمل برلمانية تم إطلاقها يوم 8 ماي 2024، وهدفت إلى الدفع نحو اعتراف رسمي بالمجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي في الجزائر، وفق بيان عن الوفد، والذي استمع خلال الأشهر الماضية إلى أربعة مؤرخين، واثنين من المختصين في القانون، وثلاثة من صنّاع الأفلام الوثائقية، ما أكد لهم “المسؤولية الواضحة للدولة الفرنسية في تلك المجازر، كما أثبتتها منذ زمن طويل الدراسات التاريخية”.
وعن سبب تأخر فرنسا في الاعتراف بهذه الجرائم، يرى دوبيه أن “مسار الذاكرة في ما يخص الأحداث الصادمة دائمًا ما يكون طويلاً ومعقدًا، وغالبًا ما تعيقه ظاهرة ما يُعرف بـ”تنافس الذاكرات”، حيث يبدو كأن الاعتراف بذاكرة ما يُضعف من قيمة أخرى. وهذا بالضبط ما ينبغي تجاوزه”.
ويأمل أعضاء الوفد أن تكون زيارتهم إلى الجزائر قد مثلت خطوة نحو بناء موقف سياسي فرنسي واضح إزاء مسؤولية فرنسا التاريخية، وعن احتمال ترجمة هذه المبادرة الرمزية إلى خطوات ملموسة، يقول دوبي: “هذا ما أتمناه فعلاً. ما يهمني هو أن نجد طريقًا للحوار، رغم الخلافات الحالية أو المقبلة. فالمسائل التي تفصلنا لا يمكن حلها دون نقاش مباشر وصريح”.
وفي ظل حالة التوتر التي تطبع العلاقات بين باريس والجزائر، كشف السيناتور دوبي أن أعضاء الوفد وجّهوا رسالة إلى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد عودتهم، عبّروا فيها عن “تطلّعات الشعب الجزائري إلى عودة نوع من الطبيعيّة في علاقات البلدين”، مضيفًا: “على السلطتين التنفيذيتين أن تلتقطا هذه الفرصة وتبنيا عليها. لقد أظهرت زيارتنا، كما حرارة الاستقبال الذي حظينا به، وجود رغبة متبادلة في التقارب. حان الوقت لمناقشة إمكانية إعادة بناء إطار جديد للحوار الثنائي”.
إلى جانب النواب وأعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي، شارك كذلك عدد من المنتخبين المحليين في الوفد الفرنسي المكون من حوالي ثلاثين منتخبا، والذين انتقلوا للجزائر للمشاركة في إحياء ذكرى مجازر 8 ماي 1945.
عن هذه المشاركة قالت لنا المنتخبة عن حزب “فرنسا الأبية” بإقليم سين سان دوني ورئيسة جمعية: “الاتحاد الفرنسي الجزائري للتضامن والتجديد”، كريمة ختيم: “نحن كمنتخبين فرنسيين-جزائريين، كنا في وطننا، نؤدي واجبنا تجاه الذاكرة. فـ 8 ماي 1945 ليس مجرد تاريخ ارتُكب فيه جُرمٌ من طرف الدولة، بل هو جزء من سلسلة طويلة من العنف الاستعماري المسلط على الشعب الجزائري منذ عام 1830: من معسكرات الاعتقال، إلى الإحراق بالدخان، واستخدام الأسلحة الكيميائية، والتجارب النووية. إنها قصة ألم، ولكنها أيضًا قصة مقاومة، حمل لواءها رموز خالدة مثل الأمير عبد القادر، والشيخ المقراني، والشيخ أمود آغ المختار.
وأضافت كريمة ختيم: “وجودنا يعبّر أيضًا عن التزامنا، كمنتخبين فرنسيين، بالعمل من أجل الاعتراف والاحترام المتبادل بين شعبينا. نحن لا ننتمي إلى أولئك الذين يُغفلون الصفحات السوداء من التاريخ، بل إلى الذين يواجهونها بشجاعة ووضوح، لبناء مستقبل مشترك قائم على الحقيقة”.
واعتبرت الزيارة تاريخية. على اعتبار أنه لأول مرة، يزور وفد رسمي من المنتخبين الفرنسيين الجزائر لإحياء هذه الذكرى، مما يبرز عمق الروابط التي تجمع بين شعبينا. هذا الرابط نبنيه بعيدًا عن مؤسسات الدولة، عبر دبلوماسية شعبية، حيث يقترب الناس من بعضهم، ويفهمون بعضهم، ويبنون معًا. وقد استُقبلنا بحفاوة استثنائية من قبل السلطات الجزائرية، التي شرّفتنا باستقبال يليق بثقافتنا: حفاوة، كرامة، وفخر.
وفي الوقت الذي تبدو فيه الدبلوماسية الرسمية متوقفة، خاصة بسبب توظيف المسألة الجزائرية في الساحة السياسية الفرنسية، فإن مبادرتنا أتت في إطار دبلوماسية شعبية. نحن نؤمن بأن الشعوب، من خلال الحوار والذاكرة المشتركة، يمكنها أن تتجاوز الانقسامات وتكتب فصلًا جديدًا من تاريخها المشترك.
وأخيرًا، فإن هذا العمل المتعلق بالذاكرة يُذكّرنا بأهمية تضحيات أجدادنا الذين ناضلوا من أجل الحرية والكرامة. وهو يلهمنا في لحظة يبدو أن التاريخ يعيد نفسه بمرارة. نحن نشهد اليوم نكبة جديدة تتشكل في فلسطين المحتلة، حيث يواصل الكيان الإبادي وحلفاؤه حرمان شعب من أبسط حقوقه. كما نشهد استمرار نفس الآلة الاستعمارية في الصحراء الغربية، حيث تواصل القوى الاستعمارية السابقة، الرافضة للاعتراف بجرائمها، حرمان إخواننا الصحراويين من حقهم المشروع في تقرير المصير، المكرّس في القانون الدولي.
في الجزائر، أردنا أن نُذكّر أن واجب الذاكرة هو أيضًا واجب يقظة، وأن التاريخ يُعلّمنا بأنه لا يمكن إخراس أي شعب إلى الأبد، وأن العدالة تنتصر دائمًا، حتى على أعظم الإمبراطوريات. وأردنا أن نُثبت، بالفعل لا بالقول، أن هناك قوى في فرنسا لا تزال تحمل خطاب مناهضة الاستعمار، خطاب القانون الدولي، وخطاب الاحترام المتبادل، وتَحمِل في جيناتها، من خلال انتمائها المزدوج، ذلك الرابط الحيوي الذي يفرض على بلدينا أن يحترما بعضهما ويبنيا معًا صفحات مشرقة من التاريخ.”
أما عن الرسالة التي حملها هؤلاء المنتخبون حين عودتهم لفرنسا، فتقول كريمة ختيم “عند عودتنا إلى فرنسا، حملنا معنا صورًا قوية ومشاعر عميقة. لقد رأينا الشباب الجزائري، كشافة خراطة، الذين يتحلون بروح مدنية ووطنية عالية، يرفعون بفخر ألوان العلم الوطني. وبجانبهم، نساء كثيرات منهن طاعنات في السن، يُغنين بتأثر ويحملن الوطن في ذاكرتهن، في تجاعيدهن وابتساماتهن. لقد كانت هذه المشاهد، أفضل من ألف خطاب، استمرارية الذاكرة الحية من جيل إلى جيل، والتي تظل شعلة لا تنطفئ”.

كريمة ختيم. لقطة شاشة: Global Africa Telesud
لقد انبهرنا أيضًا بعظمة المناظر الطبيعية، بالجبال الشامخة التي آوت أبطالنا، تلك القمم التي رددت صدى النشيد الوطني الذي أنشدناه معًا عند رفع العلم. هذه الجبال كانت شاهد على بطولات أجدادنا الذين تسلّقوها في وجه جيش استعماري يفوقهم عددًا وعدة، ولكن التاريخ أثبت أن قوة الإيمان والقتال من أجل العدالة تنتصر دائمًا، حتى على أقوى الأسلحة.
وعن الاستقبال الذي حظي به الوفد الفرنسي، أكدت المنتخبة الفرنسية، أن الجميع شعر بعمق الحفاوة الاستثنائية قوبل بها من قبل العيد ربيقة، وزير المجاهدين، الذي رافق الوفد خطوة بخطوة، محاطًا بنواب جزائريين، وولاة، ورؤساء بلديات، ومسؤولي جمعيات، وأجهزة البروتوكول والأمن، وغيرهم. هذا الاستقبال، الذي يليق بكبار رؤساء الدول، كان دليلًا ساطعًا على دفء الجزائر، وأيضًا على رُقي الدولة الجزائرية، التي عبّرت لنا كمنتخبين فرنسيين عن احترام عميق وتقدير كبير. لقد أثبتت الجزائر من خلال هذا الاستقبال، أنه لا توجد عداوة بينها وبين فرنسا عندما تُبنى العلاقات على أساس الاحترام والاعتراف المتبادل. ونحن نحمل معنا هذه الرسالة إلى فرنسا.
إقرأ أيضا – فرانتز فانون.. صوت الثورة الجزائرية ومُنظِّر الكفاح ضد الاستعمار
وشددت على أن هذه الزيارة تُثبت للجميع في فرنسا، أن هناك طريقًا آخر ممكنًا، طريقًا يمرّ بنا نحن أبناء الضفتين، الذين نتحمل مسؤوليتنا. لقد لبينا نداء الرئيس تبون الموجه لكل أبناء الجزائر، وفي الوقت نفسه نؤدي واجبنا كفرنسيين عبر الإسهام في رُقي فرنسا عندما تفي بقيمها، ونسعى لتعزيز علاقات هادئة ومحترمة مع أكبر بلد إفريقي.
لقد أدركنا بوضوح أنه لا توجد خصومة بين الشعوب، بل مع الآلة الاستعمارية فقط. هذا ما أكده لنا العديد من المجاهدين. آباؤنا وأجدادنا الذين عاشوا الحرب نقلوا لنا هذه الحقيقة. ونحن في فرنسا، تقع على عاتقنا مسؤولية نقل هذه الرسالة، لأننا سفراء شعبنا، الجزائر، في وطننا الآخر، فرنسا. ومن مسؤوليتنا أن نُذكّر بأن الشعوب لم تكن يومًا أعداء.”
وختمت كريمة ختيم حديثها لـ”الشروق” قائلة: “كما نحمل رسالة اعتراف، ولكن اعتراف في كنف الكرامة. فالمؤرخون مجمعون على أن مجازر 8 ماي 1945 كانت جريمة دولة. ويجب على الدولة الفرنسية أن تعترف بهذه الحقيقة، بنفس الطريقة التي ارتُكبت بها الجريمة. هذا الاعتراف لا يُضعف فرنسا، بل يُعزّز من مكانتها. هذا هو الاعتراف الذي يُجسّد فرنسا التي نحبها ويُحبها الجميع. فرنسا التي تُلهمها شخصيات مثل ألبير كامو، جان بول سارتر، جاك فيرجي، جيزيل حليمي، سيمون دو بوفوار، فرانتز فانون، وغيرهم كثيرون. هذه فرنسا لم تنطفئ، ولا يجب الاعتقاد بأن فرنسا محصورة في اليمين المتطرف. بل لا تزال حاضرة في شخصيات مثل جان-ميشيل أباثي، سيغولين رويال، دومينيك دو فيلبان، كما في أبناء مشتركين مثل الكاردينال رئيس أساقفة الجزائر جان-بول فيسكو، أو عمدة مدينة ستان عز الدين الطيبي.