-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بعض ما لا يعرفه الناس عن الفقيد

الطاهر دحماني
  • 300
  • 0
بعض ما لا يعرفه الناس عن الفقيد
ح.م

أحاول استنطاق ذاكرتي المتعبة، لأفتش في ثناياها حول ما تسمح به هذه السانحة، مما بقي عالقا من عبق المواقف والذكريات غير المألوفة، مما عشته وعايشته مع الراحل. والكتابة حول ذلك الجانب الخفي والخلفي لهذه الشخصية، تدخل في سياق التعرف على مسار وأفكار هذا الإعلامي الذي نحاول إعادة اكتشاف بعض مكامن الظل في سيرته ومسيرته.. بمناسبة حلول الذكرى الأولى لرحيله هذه الأيام.. وكأني بها كانت يوم أمس فقط.. فعلى روحه الطاهرة منا ألف سلام وسلام. والله نسأل أن يتغمده بواسع الرحمة والمغفرة.. ويجعل الجنة مستقره ومأواه.. ويلهم كافة أهله وذويه جميل الصبر والسلوان.

أولا/ بالمختصر المفيد علي فضيل شخص غير عادي بكل المقاييس:

 منذ الوهلة الأولى التي تعرفت فيها على المغفور له، بدا لي أن الرجل معجون من طينة أخرى.. فهو مثلي ينحدر من أصول ريفية.. اشتركنا معا في قضاء فترة طفولتنا في رعي الشويهات والعنزات.. وجلب الحطب والماء على ظهور الدواب.. وممارسة البذر والحرث والحصاد، وسائر الأشغال الفلاحية الشاقة… وكل ذلك وغيره أمر عادي جدا. لكن غير العادي، يبدأ من مساره الدراسي، حيث افتك شهادة البكالوريا، وهو تلميذ في السنة الثانية ثانوي.. وحين كنا نتقاسم الغرفة نفسها في الإقامة الجامعية طالب عبد الرحمن ببن عكنون، اكتشفت أن الرجل شعلة متوقدة من الذكاء واليقظة والحذر.. وقد حباه الله قدرات ذهنية متميزة.. فطيلة مساره الدراسي الجامعي، لم يرسب في أي امتحان.. ولم يجتز أي امتحان استدراكي.. وكان مؤهلا للذهاب بعيدا في الدراسات الدكتورالية.. لكنه سجل في الماجستير، ولم يكمل البحث الذي اختاره بعد أن تناهى إلى علمه أن راتب الأستاذ الجامعي في الجزائر هو أضعف راتب في العالم.. ثم اتجه إلى قطاع الإعلام والاتصال، لتجسيد أحلامه التي لا سقف لها في هذا التخصص.. وكان يرى أن تأثير غبار الطبشور مهم، لكن صرير القلم أكثر أهمية في تصوره لدحر مضايقات التيار العلماني التغريبي لنشطاء التعريب. ومقاومة أعداء عروبة الجزائر وإسلامها وثقافتها وتاريخها وقيمها الحضارية… ولأنه صاحب همة غير عادية، وطموحه يعانق السحاب… فلم يكن في حياته ما يستحيل تحقيقه إعلاميا… وهو ما يبرر هيامه، ويفسر ذوبانه في عشق مهنة التعب والنصب.

لم يكن يحمل على كتفيه سوى معطفه ومحفظته وقناعاته… وبدأ مشواره من العدم. وكابد حتى أصبح اسمه على كل لسان.. من ذراع عيشة، إلى لندن وواشنطن وباريس.. وأفلح في تأسيس أكبر مجمّع إعلامي بمواصفات احترافية عالمية. فهو في غالبية سلوكاته أشبه بالأسطورة. وهنا مكمن الصعوبة في الكتابة حول هذا الشخص غير العادي في مواقفه وخرجاته المثيرة… بل حتى في أبسط شؤونه، وذلك بكل الفهوم والمقاييس.

ثانيا/ هذا الإعلامي المعرب… لم يكن معقدا من بعبع اللغات الأجنبية:

زاول علي فضيل دراساته الجامعية باللغة العربية في قسم العلوم السياسية والإعلام، بجامعة الجزائر. وهو محسوب على جيل المعربين. وكان في طليعة مناضلي التعريب في ثمانينيات القرن الماضي، بمعية الراحل عبد القادر حجار، وغيره من نشطاء التعريب في تلك الفترة. وكان من كوكبة المتيمين بمطالعة أشعار المتنبي، والاستماع إلى روائع أم كلثوم، ومطالعة كتب الغزالي والقرضاوي… لكنه لم يكن وحيد اللغة، ولم يكن أسير فكر لغوي وحيد. وطالما كان يردد على مسامعنا أن وحيد القرن قد انقرض. فكان منذ صغره مولعا بتعلم اللغات الحية العالمية. وقد أبدى تفوقا ملحوظا في التمكن من اللغتين العربية والفرنسية في مرحلتي التعليم المتوسط والثانوي. واستمر شغفه بتعلم اللغتين الفرنسية والإنجليزية، في مرحلة التعليم العالي. وذلك بطريقة عصامية. في معظم البحوث الجامعية. ولعله من بين المعربين القلائل الذين يحسنون لغة موليير قراءة وكتابة وخطابة. فهو مدمن على مطالعة الصحف الصادرة بالفرنسية يوميا. وكان يطالع مختلف الإصدارات الفكرية والسياسية والثقافية بهذه اللغة. وكان يريد تحدي المفرنسين، ومنافستهم بسلاحهم من خلال إصدار جريدة باللغة الفرنسية. تدافع عن الثوابت والقيم الثقافية والهوياتية والحضارية للجزائر.. وكان يتعاطى مع المراسلات والوثائق الإدارية المفرنسة التي تأتيه من خارج الوطن، ومن مختلف الدوائر الوزارية والهيئات والمؤسسات العمومية والخاصة، بندية وكفاءة واقتدار.

وفي الوقت نفسه، كان الفقيد متمكنا إلى حد جيد، من ناصية اللغة الإنجليزية. ويكفي التذكير أنه كان أستاذا لفترة ولو قصيرة لمادة اللغة الإنجليزية في التعليم المتوسط.. وحين كان يزور بعض البلدان الأنجلوسكسونية، لم يكن يحتاج إلى الاستعانة بمترجم كما هي حال الكثير.

وأتذكر أننا خلال الفترة الجامعية وما بعدها بقليل، قطعنا معا شوطا في تعلم الأمازيغية، بعد تعرفنا، وفرط نقاشنا مع طالبات، ينحدرن من منطقة القبائل الغالية علينا… ولا أسوق كل الدوافع الذاتية لمحاولة أمزغة ألسنتنا إذ ذاك… وأكتفي بالإقرار أن الأقدار ساقت الأستاذ علي إلى دفن عزوبته في الدوسن… في مقابل إعدام عزوبتي في مليانة… وتجري رياح تهافتنا على التمكن من اللغات، بما لا تشتهيه المقاصد والنوايا المتعلقة بالتعددية اللسانية.

ثالثا/ كان الفقيد مبدعا في مجال المصطلحات والكتابات الساخرة:

 معظم من يعرف علي فضيل عن قرب، يدرك أن الرجل خفيف الروح. وشخصيته تتدفق مرحا وحيوية. وهو كثير التنكيت، تجده هاشا باشا، طلق المحيا… ويوزع البسمات، ويتبادل النوادر والضحكات مع الجميع. وكان يجتهد في كسر الروتين، ومقاومة الرتابة بتطعيم كلامه بمصطلحات ساخرة، تزرع البسمة وتبسط الراحة في سامعها. ويكفينا التذكير بأنه اقترح تسمية أسبوعية “الشروق العربي” بـ(الكشرود)، لكن الزملاء اعترضوا على تلك التسمية.. وكان ينادي زميلا صحفيا أسمر اللون بـ(الروجي).. وكان يدلع زميلة صحفية سمراء، بـ(الروجية).. ولا أنسى توصيف زميلنا الضخم بـ(الرامول).. ونعت هزيل البنية بـ(الهارب للغسال). وكان يستعين بتعابير قرآنية في وصف الشيوعيين بـ(الحمر المستنفرة).. وقد أجاد وأبدع في الكتابة الساخرة خلال إعداده ركن (فضوليات) الذي بدأ نشره في جريدة الشعب ثم المساء ثم القناة الأولى للإذاعة الوطنية في برنامج (فكاهة وطرب).. وأخيرا في أسبوعية “الشروق العربي”. ولم تخل أحاديثه من إضافة بعض التوابل في تعابيره الساخرة لتلطيف الأجواء، وتهدئة الأعصاب… وهي مبطنة بتوجيه رسائل وانتقادات ذكية لمختلف المواقف والأوضاع والممارسات السياسية والثقافية والاجتماعية.. من أبسط مواطن، إلى أكبر مسؤول في هرم الدولة.. وحتى انتقاداته الساخرة، لا تخلو من روح المسؤولية والموضوعية.. ولا أذيع سرا حين أذكر أن روح الدعابة والنكتة لم تفارقه حتى وقت الزج به في السجن مع زميله سعد بوعقبة، حيث كان يبتسم ويضحك وهو مكبل اليدين. ويردد على مسامع من هم حوله عبارات من جنس: (الكيل 11 يا دلالي… الليلة نباتو في دار قويدر!).

أخيرا/ بصماته الشروقية البارزة أكبر من أن نختصرها في مقال:

يظل علي فضيل متفردا بامتياز في شخصيته.. ويصعب استنساخه في عصرنا… وتفاصيله أكبر من حصرها في مقال، أو رصدها في كتاب… ورغم كل ما كابده الفقيد من مرارة التضييق والحسد والحقد والكيد والعراقيل… فقد رحل متوجا بسجل ناصع، وحافل في نصرة الحرف العربي.. ودعم العلم والعلماء.. وخدمة القرآن، وتكريم حافظيه وحملته.. وفعل الخيرات.. ومساعدة طلبة العلم والفنانين والمثقفين والإعلاميين… فهو لم يكن مجرد هاو، ولا متطفل على قطاع الثقافة والإعلام، بل كان صاحب فكرة ومشروع بكافة الأبعاد الحضارية… عليك رحمة الله حبيب الفقراء.. ومحب فلسطين والصومال… في الذكرى الأولى لرحيلك، لا نبكيك بحرقة، بل نترحم عليك، ونذكر مناقبك بشموخ… وعزاؤنا أن الجنود الشروقيين بعدك، في هذه الذكرى، يستخلصون العظات، ويستلهمون أفضل العبر من مسارك وأفكارك.. وما تركته في محيطك من بصمات وتأثير… آملين ألا يخيبوا ظنه في إيصال إشراقات شمس “الشروق” الناصعة إلى مشارق الأرض ومغاربها.. فالصمود الصمود.. الرباط الرباط.. يا أحبابنا في مجمع “الشروق”، تحت قيادة الفارس الجديد، الأستاذ/ رشيد فضيل.. والله وحده الموفق لما فيه خير الجزائر وأهلها وأمنها وعزتها واستقرارها.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!