-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بلدة القرارة تُحيي المئوية الأولى لمعهدها التّليد

بلدة القرارة تُحيي المئوية الأولى لمعهدها التّليد

يُدرج الاحتفال بمدارس التّربية والتعليم، ويضم استرجاع تاريخ نشأتها وتتبّع مراحل تطوّرها والوقوف عند مُخرجاتها التي ساهمت بها في تنمية المجتمع في منزلة التصرف الجدير بالتباهي والافتخار عند مكتشفي مكانة المدرسة كركن راسخ تؤسَّس عليه النهضات في سبيل التقدّم. ويسخّر في تربية الأجيال وتنشئتها وصقل مواهبها، وفي صون الهُويّات ونقل القيّم الفاضلة والتّراث الخالص إليهم. ومنذ القِدم، كانت المدرسة هي ينبوع العطاءات التي يعوَّل عليها في تأهيل مواطنين أخيار يوزّعون نفعهم بين أنفسهم وأوطانهم. وفي غياب المدارس وعجزها، يضيع كل أمل في الحياة الرشيدة الزاخرة، ولا تقوم قائمة مشرّفة لأي أمة أو شعب.

في نهاية شهر ماي الماضي، أحيت بلدة القرارة، وهي الحاضرة العلمية الرائدة بين مدائن وادي مزاب السبعة، المئوية الأولى من عمر معهدها العريق “الحياة”. ولما كان الحدث عظيما وجليل القدر، فإنه احتاج إلى فسحة تحضير زمنية قاربت سنة كاملة تفاقم اشتداده وزادت سرعته في الأشهر الثلاثة الأخيرة.

ورغم أن المساهمة في الإعداد كانت جماعية وشاملة، إلا أنه تزعّمته مؤسستان هما جمعية “الحياة” التي يعود تأسيسها إلى سنة 1937م، والتي مثلت المظلة الحامية التي كان ينشط تحت سقفها المعهدُ المحتفى به في عهد الاستعمار الفرنسي للانفلات من مضايقاته وتحرّشاته التي لا تهدأ، وجمعية “التراث” الحديثة التي يرأسها الأخ الدكتور محمد ناصر بوحجام.

أسندت قيادة التحضيرات إلى المربِّي الأستاذ البشوش عبد الوهاب حميد أوجانة سبط الشيخ القدير إبراهيم بيّوض من كريمته الوسطى خديجة. وهو من يتولّى حاليًّا رئاسة الجمعية الأولى المذكورة منذ حين. والمتحدَّث عنه رجلٌ ذو همة عالية في التفكير والمناولة العملية وصاحب أنفاس طويلة. ويبدو أنه ورث باقة منتقاة من صفات جدّه لأمه في الجديّة والانضباط، والحرص والالتزام، أغلق عليها كفّه وأصابعه، ودسّ عصارتها في عصبه وعروقه، وبذلك كان خير خلف لخير سلف. وبعد التشاور، وقع الاختيار التكريمي على الأستاذ ناصر الدين بن أيوب بالحاج ليتولى منصب الأمين العام للاحتفالية، وهو عنصر يتقد حيوية ونشاطا، ويفيض حركية لا تعرف التوقف أو السكون، وينضح إيثارا وإنكارا للذات، ولا يستسلم للتردد أو الإحجام. ورغم ثقل الحمل، إلا أن لم يُر متململا أو شاكيا من التعب أو الإرهاق، واستطاع بصبره الأيوبي الرائع أن يعفو عن منتقديه، وهم قلّة، وأن يكيل لهم من إحسانه وتسامحه بمكاييل واسعة الأقساط مما جعلهم يحنون رؤوسهم أمامه احتراما واعترافا.

بفضل حسن التحضير الذي لو وضع في ميزان التّقويم العادل لرجح مؤشر كفته نحو الظفر بأعلى العلامات وزيادة، عاشت بلدة القرارة ثلاثة أيام لن تُنسى من عمرها، وهي أيام مليئة بالحركة الدؤوبة والنشاطات النافعة، واستطاعت أن تصنع أجواء للمعرفة وفضاءات للفرجة وللمتعة في هذه المناسبة، وتوزع احتضان فعاليات هذه التظاهرة العظيمة بين المبنى الفسيح للمعهد في عهده الجديد الذي دخل به طوره الرابع منذ سنوات قريبة وعمارة دار عشيرة “آيث أعلاهم” التي ينتمي إليها الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض ربان سفينة الإصلاح بالجنوب الجزائري، وهي دار كبرى وفسيحة تقعفي قلب البلدة بجوار ساحتها المركزية التي تدعى باللهجة المحلية: “إنورار”، أي: البيادر. ومن يعرف كلمة: “البيدر” يستطيع أن يستحضر طوبونيميا المكان ودوره في المخيال التراثي الجمعي عند الأجداد.

في صباح أول يوم من الاحتفالية الذي وافق الأربعاء الثامن والعشرين ماي، استفاقت القرارة باكرا؛ لأنها كانت ترتقب هلال موعد مقرون بمجد تاريخي أطلّ عليها، وفرّكت عينيها مع أولى نسائم الفجر، وطردت النوم من أحداقها. وما إن صافحتها أشعة الشمس الأولى حتى ظهرت في حلية البهاء والحسن التي تبهر الأعين وتسرّ القلوب. وانبثق صدى التحسيس الجماعي منبعثا من كل ركن وزاوية، وتنافست كل العائلات للمشاركة بفعل رمزي تعبيري هادئ في عرس المعهد المئوي. وأقدمت على شقِّ أبواب مساكنها المتلاصقة شقا خفيفا جعل البخور الذي يدفعه تيار الهواء الدافئ يخرج منها وينتشر مالئا أرجاء الدروب والأزقة الضيقة، فلا يشمُّ من يمرُّ بها إلا عطر الروائح الطيِّبة المنعشة. وعندما سجّلت هذه الملاحظة العابرة لصديقي الدكتور محمد بن صالح حمدي الذي غادرنا فجأة بعيد عيد الأضحى، ونحن نسير جنبا إلى جنب، تهلّل محيّاه وأشرق، وجابت ابتسامة فرح وجهه المتلألئ، أسمعني، كعادته، كلمات استحسان أخلطها بأسلوبه المرح والمازح المعهود به.

افتتحت الفعالية في مبنى معهد “الحياة” افتتاحا رسميا وشعبيا. ودُعي المدعوون لزيارة

المعرض المقام في إحدى القاعات واكتشاف معروضاته المتنوعّة التي تروي مشاوير الرحلة الطويلة التي سارها المعهد من خلال الوثائق التاريخية والصوّر والبيانات والرسوم. وتظهر انتقاله من طور إلى طور، وتبرز عمليات التطوير المتعاقبة التي أدخلت عليه واستفاد منها، وتزكّي سيره في طريق التحسين الذي ضمن له مواكبة المستجدات، ومكّنه من الاستمرار في عطائه الفائق الذي نمت سنابله حتى خارج الوطن بفضل مناهج التعليم المتَّبعة وأساليب التدريس المستنَد إليها، وجعلته يكتسب سمعة وينال مكانة بين المعاهد والمؤسسات التربوية والتعليمية خارج حدود الوطن.

عجّت المناسبة بتشويق حرّك رغبة في كل النفوس للسفر بعقول متعطشة مع ماضي معهد “الحياة” الذي رفع اسم القرارة إلى مصف المنارة ذات السراج الوهاج التي أضاءت سماء الجزائر في فترة عصيبة من تاريخها الذي طبعه الاستعمار الفرنسي بلون أسود دامس بما زرعه فيها من فقر وظلم وتجهيل واستعباد. وترك تنويع النشاطات الأثر الطيب والمريح في نفوس الحاضرين الذين ظلوا يتابعونها بعدد يربو عن الألف في كل مرّة.

رأيت، في البدء، الوقوف وقفة عجلى حثثتُ فيها الخطى لإظهار التوافق والانسجام بين الحركة الإصلاحية في شمال الجزائر بقيادة الشّيخ عبد الحميد بن باديس وشقيقتها في الجنوب من خلال مجموعة من الملاحظات التي يمكن الاستغراق معها لمن يشاء. وكان غرضي من ذلك هو التّأكيد على أن الحركتين، ورغم التّباعد الجغرافي نسبيًّا، تنبعان من مشكاة مضيئة واحدة، وتسيران جنبا إلى جنب.

تفرّقت الفعاليات بين الجلسات العلمية التي خُصّصت لها أمسية كاملة، ونبش المشاركون فيها تربة تاريخ معهد “الحياة” من خلال عدة مقاربات وصفية وتحليلية واستنتاجية وتقويمية والمنابر الشّعرية والوقفات الإعلامية التعريفية بالمعاهد المبثوثة في قرى وادي مزاب ومدى التنسيق والتكامل بينها والعروض المسرحية التعبيرية والاستعراضات الرياضية لبعض الرياضات القتالية وإقامة الورش التي اختير لها من يناقش مواضيعها ويرسم طموحات معهد “الحياة” وآفاقه في عالم الغد الذي تُظلله العولمة بغطرستها البالعة والرقمنة برؤيتها الاحتكارية التي تهفو إلى تعرية كل ملف وجعله تحت عدسة المجهر ووسائل التواصل الاجتماعية الحديثة التي قرّبت البعيد، وجعلت أطراف العالم المترامية تنكمش حتى غدا قرية صغيرة.

أتيحت لي، كغيري من المساهمين في الجلسات العلمية، فرصة تقديم ورقة ألبستها عنوان: “معهد الحياة بالقرارة..أدوار وأطوار”. واستعرض ملخص هذه الورقة في السطور الموالية:

(لاحقت في هذه المداخلة المتواضعة التي وسمتها بعنوان: “معهدُ الحياة في القرارة.. أطوارٌ وأدوارٌ”، لاحقت جوانب من مسيرة هذه المؤسسة التّربوية والتّعليمية العريقة التي تُعد قطب الرّحى في الحركة الإصلاحية التي قامت في الجنوب الجزائري في مطلع القرن العشرين المنصرم، وتزعّمها وتقدّم صفوفها الشّيخ الجليل إبراهيم بن عمر بيّوض، عليه رحمات الله.

رأيت، في البدء، الوقوف وقفة عجلى حثثتُ فيها الخطى لإظهار التوافق والانسجام بين الحركة الإصلاحية في شمال الجزائر بقيادة الشّيخ عبد الحميد بن باديس وشقيقتها في الجنوب من خلال مجموعة من الملاحظات التي يمكن الاستغراق معها لمن يشاء. وكان غرضي من ذلك هو التّأكيد على أن الحركتين، ورغم التّباعد الجغرافي نسبيًّا، تنبعان من مشكاة مضيئة واحدة، وتسيران جنبا إلى جنب.

بعد أن أظهرت سُمعة معهد “الحياة” التي تجاوز صداها حدود الجزائر، وطارت محلّقة في الآفاق حتى بلغت المشرق العربي من خلال شهادات واعترافات ثلّة من أساطين اللّغة وطائفة من أهل الفكر والأدب والرأي العلمي الصادق في الجناح المشرقي من وطننا العربي، توقّفت من دون تفصيل مسرف عند الأطوار المتلاحقة التي مرّ بها منذ عهد نشأته إلى يومنا هذا. وألمحت إلى

مظاهر التّطوير المتوالية التي شملت كل جوانبه، وجعلت انتقاله من طور إلى طور متبوعا بالنماء والتّقدّم والرّقي والازدهار في مختلف المناحي.

قصدت بلفظة: “الأدوار” التي وردت في العنوان صنيع بعض الرّجال العظماء والمهرة من ذوي الهمم الذين كانوا محيطين بمؤسس المعهد وقائده الشّيخ إبراهيم بيّوض، وشكّلوا له سندا ومددا وموردا. واخترت منهم ثلاثة من الكبار الأفذاذ، وهم: الشّيخ المربّي شريفي سعيد المعروف باسم: “الشّيخ عدّون”، والشّيخ أبو اليقظان رائد الصّحافة الجزائرية، والمؤرّخ الأديب محمّد علي دبّوز. وحاولت أن أبرز في إشارات لامحة وخفيفة اختلست فيها النظر إلى دور كلّ واحد منهم في مسيرة المعهد وأثر يديه البيض عليه.

لن أكون مبالغا إذا أسررت أن كل نقطة من النّقاط التي أثرتها في هذه السّطور التّي كنت فيها قليل البضاعة وحسير البسط تحتاج إلى وقفة موسّعة يذهب معها صاحبها في التّعمق والبحث عن زمرُدها وياقوتها بعيدا عن الضّفاف والشّطآن).

علمت قبل أن أغادر القرارة أن هذه الاحتفالية المئوية الأولى المخصّصة لمعهد “الحياة” ستستمر لمدة حولين كاملين قد ترحل فيهما بين عدة مدن حتى يحصل التعريف بهذا المعهد العريق الذي لم يخطئ من اصطفى له هذا الاسم الخالد.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!