-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بل هي دروسٌ لُصوصيةٌ!

بل هي دروسٌ لُصوصيةٌ!
أرشيف

قبل سنوات قريبة، لم يكن الخوض انتقادا وذما وتجريحا في الدروس اللصوصية إلا لماما وفي أحايين قليلة. وكانت الأصوات التي ترتفع لمعارضتها محدودة ومحصورة. وأما اليوم، فقد أصبح هذا الوباء الفتاك من المواضيع الحاضرة بكثافة في مجالس الناس وعلى صفحات الجرائد وفي القنوات التلفزية ومواقع الديوان الأزرق. وأمسى غرضا للهجوم من طرف المعلمين والأساتذة النزهاء أنفسهم والمتعلمين والأولياء بعد أن تكشفت عوراتها وتعرّت مخازيها.

وأضحى موضوعها محل مساءلات متكررة لوزير التربية الوطنية من طرف نواب الشعب. ويدل هذا الامتعاض الشامل عن درجة الوعي الجماعي بالمخاطر التي تهدد بها هذه الدروس الكليلة والعليلة بكل مفاسدها وشحوبها المدرسة الوطنية. كما يعبر عن مقدار عمق الإحساس في زعزعة مبدأ تكافؤ الفرص في حقل التعليم بين كل أبناء الوطن، وتظهر انزعاجا طاغيا من الطبقية المنبوذة التي بدأت تسود في حقل التربية والتعليم.
في نهاية الأسبوع الماضي، كتب صديق عزيز وغال وصاحب مستوى علمي عال في مجال تخصصه، كتب على صفحته في الفضاء الأزرق سطورا أبدى فيها رأيه حول هذه الآفة. ولا أرى مانعا من إعادة نشر ما كتبه، كما هو من دون زيادة أو نقصان أو تعديل إلا قليلا. فقد كتب ما يلي: (نظرًا للدخول المدرسي الوشيك اردت طرح وجهة نظر بخصوص الدروس الخصوصية. اصطلح البعض تسمية الدروس الخصوصية باللصوصية، بالتركيز على الجانب المالي. بعض أولياء التلاميذ متعلمين، ولهم فائض من الوقت، فيقومون بمساعدة أبنائهم بصفة يومية ، ولا أظن عاقلًا يلومهم. فما ذا عساه يفعل من ليس في الاختصاص او مثل بعض الاولياء المتمكنين المشغولون بوظائفهم وأنشطتهم المختلفة.
فكرة اللجوء إلى مدرس خاص ليست وليدة اليوم. بل كانت ممارسة منذ القدم. فأبناء الملوك والأثرياء كان يأتيهم مدرس خاص إلى قصورهم. ثم انتقلت الممارسة بالتدريج لباقي العائلات حتى أصبحت منتشرة بشكل كبير.
توجد شركات عالمية متخصصة في هذا المجال، وتشغل آلاف المدرسين وتدر عليها أموال خيالية، وبعض الدول تحارب الظاهرة وتحرم الممارسة: الصين نموذجا.
كثير من المدرسين الخصوصيين متقاعدون، وهذه الدروس زيادة على انها تساعد الطلاب المحتاجين لها تمثل رافدًا ماليا لهم، خصوصا في ظروف غلاء المعيشة وانخفاض راتب المتقاعد.
لما كنت طالبا، أواخر ستينات القرن الماضي لا وجود للمدرس الخصوصي، ووالدينا لا يستطيعون مساعدتنا، ثم اني كنت في الداخلي، لكن كنا نلجأ إلى كتب مساعدة، مثل: الممتاز في الرياضيات “مصر”.
ولقد انتشر التأليف في ميدان المساعدة على التحضير للامتحانات كثيرا ابتداء من ثمانينات القرن الماضي في الجزائر. ولا شك ان في هذا مردود مالي كذلك. ولا اعلم احدا انتقد هذا المنحى، ولا أرى فرقًا كبيرًا بين ذا وذاك.
هناك، ولا شك، مدرسون يقصّرون في عملهم في المدارس قصد اجبار الطلاب للجوء اليهم في إطار دروس خصوصية، وهذه بحق جريمة نكراء!. وهذا لا ينطبق هذا على الكل، والحمد لله.
ربنا يتذكر البعض اننا في أواخر القرن الماضي كانت تنظم في مدينة “أريس” ما كنا نسميه “ورشة ثقافية” حيث نقدم خلال أسبوعين من العطلة الصيفية دروسا لتحضير الطلاب للموسم الدراسي المقبل، كان يشارك فيها طلاب جامعيين من “أريس”، ومن مدن أخرى. وكان لذلك النشاط نتائج إيجابية كثيرة جدا. لا شك ان هذا من نوع الدروس الخصوصية، ولا احد عاب ذلك، حسب علمي.
في النهاية أرى في الدروس الخصوصية فوائد لمن يحتاج إليها، وعيوبًا خاصة الجري وراء التحصيل بأسرع وقت في زماننا زمن الـ “fast food”، لكن في وصمها بالدروس اللصوصية مبالغة، وربما إجحاف في حق المدرسين المخلصين الشرفاء. ولكل ذي رأي رأيه، والله وليّ التوفيق!).
يرى صديقنا المحترم في تسمية هذه الدروس السرطانية بـ”الدروس اللصوصية” مبالغة؟، وهو إنكار نستغربه وندفعه. إذ كيف لا توصف باللصوصية ومزاولوها لا هم لهم سوى اقتناص جيوب الأولياء من دون شفقة ورحمة؟. وكيف نسقط عنها هذه الصفة والواقعين في فاحشتها من المعلمين والأساتذة يقصرون كلهم في أداء واجباتهم المهنية التي تنص عليها القوانين في المدارس. فهم لا يقدمون إلا قشورا من المادة العلمية المقررة، ويبخلون حتى عن تقديم إجابات عن أسئلة المتعلمين في الأقسام، ويطالبون من يبحث عن الاستزادة بالالتحاق بالمستودعات التي تشبه المداجن من شدة الاكتظاظ. ولا يكلفون أنفسهم تحضير دروسهم وتجديد مضامينها وتنقيحها من الأخطاء وتغيير طرائق التعليم وتكييفها مع مستوى كل قسم يسند إليهم؟. وكيف لا ندعوها دروسا لصوصية إذا كان من يقدمها لا يظهر أي مرافقة لتلاميذه من حيث الانتظام في الدراسة ومتابعة تدرجه تحسنا أو تراجعا، ولا يتعب نفسه في بناء فروض واختبارات تكون مفيدة في التقويم، بل أن فيهم من يحجم عن تصحيح أوراق متعلميه ومنحها ما تستحق مع تدوين ملاحظات توجيهية، وإنما يوزع العلامات وفق معيار آخر معتمد على متابعة هذه الدروس أو رفضها؟. والداهية الكبرى أن أسئلة الفروض والاختبارات يكشف عنها بعد نفوق الوازع المهني والأخلاقي وموت الضمير قبل مواعيدها المحددة مرفوقة بحلولها أمام من يتابعون هذه الدروس؟. فهل توجد أوجه لصوصية أفدح وأخبث من هذه اللصوصية؟؟. إنها لم تعد لصوصية، وإنما هي خيانة مكتملة الأركان والبنيان؟.
عندما يفتن مقدمو الدروس اللصوصية في التنويع الشكلي لنشاطاتهم من أجل المزيد من تحصيل الدنانير وتفريغ جيوب الأولياء عن آخرها، بابتكار حيل وأحابيل يضعونها كوسائل للاقتناص مثل الأفواج الخاصة والمراجعات الفصلية ومراجعات التحضير للامتحانات الرسمية، أفلا يمكن أن نرى في هذه التصرفات لصوصية سافرة وناطقة؟؟. ولما تتسبب هذه الدروس في زعزعة ميزانيات الأسر الواقعة في الطبقة الوسطى ومحاصرتها في لقمة عيش أبنائها وإرهاقها، ألا يعتبر ذلك جناية كبرى وسطو واعتداء؟؟. وأما تأثيراتها السلبية على الفعل البيداغوجي وعلى نتائج عمليات التقويم التربوي فالحديث عنها واسع شاسع، ويحتاج إلى وقفة أخرى.

لما تخرج لنا هذه الدروس الجوفاء متعلمين عاجزين تمام العجز عن كتابة فقرة أدبية أو علمية لحرمانهم من التدريب الفعال واستبداله بحل تمارين مكرورة منذ عهد غابر، فمعنى ذلك أنها تسبّبت في قتل أثمن ما يملكه المتعلم، وهو قدراته العقلية، وأصابتها بالكساح المقعد. أفلا تقودنا هذه الملاحظة إلى إدراك أن الخسارة باهظة جدا؟ فأي مستقبل ننشده للأجيال القادمة إذا فسدت فيهم المادة الرمادية ونحن نعلم أن الثراء والغنى في العقول وليس في الحقول؟.

لما تخرج لنا هذه الدروس الجوفاء متعلمين عاجزين تمام العجز عن كتابة فقرة أدبية أو علمية لحرمانهم من التدريب الفعال واستبداله بحل تمارين مكرورة منذ عهد غابر، فمعنى ذلك أنها تسببت في قتل أثمن ما يملكه المتعلم، وهو قدراته العقلية، وأصابتها بالكساح المقعد؟. أفلا تقودنا هذه الملاحظة إلى إدراك أن الخسارة باهظة جدا؟. فأي مستقبل ننشده للأجيال القادمة إذا فسدت فيهم المادة الرمادية ونحن نعلم أن الثراء والغنى في العقول وليس في الحقول؟؟.
تذهب كل أمم الأرض مسرعة إلى مدارسها لمحاربة التخلف ومطبات الأعطاب والسقطات الاجتماعية مثل ماليزيا وسنغفورة، أو تجري إليها مسرعة إذا شعرت أنها تأخرت عن ركب التقدم التكنولوجي كما فعلت أمريكا لما سبقتها روسيا في اختراق الفضاء والصعود إلى القمر. وبمجرد أن دقت دقت ناقوس الخطر، ولدت أعمال المربي الكبير جون ديوي التي أحدثت زلزالا في المدرسة الأميركية، وأثمرت ثمارا يانعة بعد عشر سنوات. وفي وجود الدروس اللصوصية التي تشبه الضرة العجوز الشمطاء والكابحة لكل دفعة رقي وتسلق لسلم الصعود، كيف ننشد نهوضا لمدرستنا؟، وكيف نصبو إليه؟.
لقد استطاعت دولة فنلندا، وهي دولة مجهرية من حيث المساحة مقارنة بكثير من الدول (مساحتها 338.145 كم2) أن تسطر التطوّر لمدرستها، وأن تمنحها مرتبة الريادة العالمية؛ لأنها حاربت ما دعته بـ”جراثيم التعليم”. وعندما يتحدث الأب الروحي للمدرسة الفلندية “باسي سالبرغ”، يقول: (إن أول خطوة اتخذتها فلندة للنهوض بالتعليم هي التخلص من الجراثيم). ولما يذكر هذه الجراثيم المقلقة، يذكر الدروس اللصوصية في المرتبة الخامسة. وإن أجلسها في المرتبة الأخيرة فذلك لأن هذه الجرثومة غير مستشرية ولم تضرب بأطنابها في فنلندا كما هو الحال عندنا. وفي الشقيقة مصر، لم تتوقف عمليات محاربة هذه الدروس وغلق مقراتها وتجريم وتغريم من يقدمونها؛ لأنها عرفت أن جرثومة الدروس اللصوصية هي جرثومة شرهة وشرسة وفتاكة.
أضحك كثيرا لما يواجهني بعضهم من الغارقين في مستنقعات الدروس اللصوصية حتى الأذنين بالسؤال التالي: وما البديل لها؟. ولي أن أسألهم بدوري، هل يبحث عن داء بديل لمرض السرطان، عفانا الله منه، عندما يهاجم جسما، أم أنه يستأصل ولو بالجراحة والكي لتحقيق الراحة للمصاب؟.
يطول الحديث، وقد لا ينتهي لما نفتح صفحة استحضار مفاسد الدروس اللصوصية. وإني أراها بأنها هي السبب الأول الذي سلب المعلمين والأساتذة القداسة والاحترام والتبجيل التي كانت تحيط بمربيي الأمس، ورمتهم في جباب التنكيت والتندر والاحتقار والتهجم. وما أتعس الحياة عندما يباع الشرف والهمة وعزة النفس بثمن بخس ودراهم معدودات؟.
لقد سرقت الدروس اللصوصية كل مواصفة جميلة في المدرسة، وامتصت إشراقها، وعرقلت مسيرتها، وشوّهت مخرجاتها، وهشمت القيم التربوية التي تحفظ المجتمع من الانحراف والانجراف، ومزقت وشتتت أصناف العلاقات الاجتماعية بين عناصر الجماعة التربوية داخل المدرسة الواحدة، ونشرت العداء والبغضاء بين المعلمين والأساتذة بسبب التنافس المحموم على التحصيل المادي الزائل.
بعد كل هذه المساوئ والنقائص وغيرها، هل يرى إجحاف ومبالغة في تسمية هذه الدروس الخرقاء بـ: “الدروس اللصوصية”؟. كلا، وألف كلا؟.
لا اعتقد أن ثمة إصلاحا تربويا يأتي أكله، ويرفع من مردود مدرستنا الوطنية ما لم يتم القضاء، أولا ونهائيا، على جائحة الدروس اللصوصية وبكل الوسائل المتاحة. وأما السكوت عنها، وترك الحبل على الغارب فيما يخصها فقد يؤدي بنا إلى نكبات ومصائب غير محمودة العواقب. وعلينا أن نشرع في تصحيح الوضع قبل أن يتسع الفتق أكثر، ويعجز، حينئذ، الراتق عن الرتق.
وأما أنت، يا صديقي، فلك مني كل عبارات التقدير التي تليق بسمو أخلاقك وأفضالك وبمكانتك العلمية العالية. ودمت أخا عزيزا.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!