-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بن مهيدي.. لم يمُت

صالح عوض
  • 2923
  • 0
بن مهيدي.. لم يمُت

هناك في الغابات تفحّصوا الأشجار وعلى سفوح الجبال قبلوا صخور الأرض وتحسسوا حواف الوديان والمغارات المتناثرة، استنشقوا بعمق هواء المكان، تحسسوا ربيع الأرض وخريفها وتدبروا شتاءها وتخفوا لصيفها وابحثوا عن بقية من دمهم هنا وهناك وعن تكبيرة ملأت الفضاء في معركة صبت فيها الطائرات النابالم تحرق الأرض حول المجاهدين فيشقون الحصار لينبعثوا هناك، وفي المكان الذي يقررون مفاجأة لجحافل الاستعماريين يمزقون أحلامهم ويعصفون باستقرارهم في جغرافيا لا تستجيب لرغباتهم وترفض خطاهم.

في هذا كله، كان ابن مهيدي الفنان الأديب الشاعر يتجلى كما لو كانت الجزائر كلها تطل من خلف الهضاب ومن تحت الركام تعلن إشراقها، يشرئب عنقها إلى السماء وكأن لا شيء عليها من أثر الجراح وعقود المعركة الطويلة.. أطل ابن مهيدي المخطط الاستراتيجي والمفكر الثوري الفذ ليجوب الجزائر من شرقها إلى غربها ثم يحط الرحال في وسطها، وهو في هذا كله يمنح المكان رونقه ويستنطقه ويصيغ له جملته الثورية ويُبرز ملامح عبقريته.. لم يتوزع ابن مهيدي على الجغرافيا، ولكنه شدها جميعا من أطرافها لترتسم على محياه جزائر عميقة مشرقة متفائلة منتصِرة حضارية كما يليق بها.

لم يترك ابن مهيدي مسافة بين المفكر والجماهير ولم يستسلم لمسلّمات العمل النضالي التنظيرية الفلسفية، بل عمد بوعي وإدراك وإيمان والتزام إلى استنبات الواقع بأفكار حية عملية متجاوزة الشكليات.. ومنذ البداية كان كبيرا وعظيما، ومنذ البداية كان قائدا ومفكرا، ولأنه يدرك أن ثورة الجزائر حدثٌ كوني كما قال كان إيمانه هذا كافيا أن يذيب من على سطح أفكاره وسلوكه كل ثانوي وهامشي وأن لا يبقى فيه إلا الجوهر الجميل العنيد المتلألئ.

في ذكرى استشهاده تنتصب المعاني التي جسَّدها ابن مهيدي جميعا في مرحلة نحن كمجتمع وأمة في أحوج ما نكون إلى تمثُّلها وبعث الحياة فيها من جديد.. فحب الوطن إلى درجة الانفلات من قيود الواقع وتراكماته وارتكاساته، وإرادة الانتصار رغم قوة الطغيان وإجرامه، والفطنة والذكاء والمعرفة بفنون العصر وقوانينه، والإرادة الصلبة التي تخترق المرحلة وتلقي بها إلى سجلات التاريخ.

ابن مهيدي مفكِّرُ الثورة وصاحب فكرة ثورة المدينة وكاتب وحي الثورة في بياناتها الرئيسية منظمها وباعث روح الانتصار فيها.. كان صوفيا متيقنا من قدر الله بالنصر، ولهذا أنذر بيجار بأن الجزائر ستكون الحقيقة الواقعة من دنكارك حتى تمنراست.

سيدي محمد العربي بن مهيدي.. في ذكرى استشهادك نحسُّ بالحياة تتجدد في عروق شعبٍ أحبَّك وأمة كنت رمزها.. في ذكرى استشهادك تتبخر منا أوهام النماذج اللقيطة وكأنك تخاطبنا فردا فردا أنه ينبغي أن لا تذلوا ولا تركعوا ولا تنحنوا لغاصب وارفعوا رؤوسكم فأنتم أصحاب رسالة وحق.

سيدي محمد العربي بن مهيدي.. تفنى السنون والقرون وتظل ابتسامتك أبدية وأنت تسير نحو المشنقة تسخر من الجلادين وتبشرنا بالنصر المبين.. وها أنت تعود لنا بالجزائر حرة أبيَّة فيما هم يعودون بالانكسار والخزي والعار على عنصريتهم وإجرامهم.

سيدي محمد العربي بن مهيدي.. أعرف أنك لم تمت وأعرف أنك لازلت تبعث في أجيالنا الحب والفرح والتصميم وإرادة المواجهة والدفاع عن الحرمات ولك منا عهد الرجال أن لا نخون ولا نهون.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!