-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بن نبي، شبينجلر والتّشكّل الحضاري الكاذب

بن نبي، شبينجلر والتّشكّل الحضاري الكاذب
ح.م

في سنة 1926م أصدر طه حسين كتابه “في الشّعر الجاهلي” الّذي استعمل في كتابته كما زعم منهج الشّك الدّيكارتي،لينفي عن الشّعر الجاهلي أصالته ويبيّن أنّه من اختلاق أشخاص جاؤوا بعد الرّسالة الإسلاميّة، وقد أثارالكتاب فور صدوره زلزالاً تجاوزت ارتداداته حدود مصرالى باقي البلاد الإسلاميّة والعربيّة، وأثار حنق وسخط أولئك الّذين تعلّقت قلوبهم بآداب العرب وأشعارهم.
لم يلتفت طه حسين يومها الى السّخط الّذي أثاره كتابه ولا إلى سِهام النّقد التي وجّهها له عمداء الأدب العربيّ، ورموز الفكر في عصره، ولم يفعل أكثر من أن خضع الى أمرالمحكمة فعدّل بعضًا من عنوان الكتاب مِن ” في الشّعر الجاهلي” الى “في الأدب الجاهلي”، وحذف بعضًا من السّطور التي أثارت الحنق والسّخط.
1ـ بين التيه والرّشاد:
ولأنّ طه حسين رجلٌ يحبّ أن يُثار حوله الجدل، ويُحبّ إزوِرَار البعض وسخط البعض الآخر، كما كان دائمًا يكتب، فقد قام في سنة 1938م بإصدار كتاب آخر أسماه “مستقبل الثّقافة في مصر” وأغراه كما زعم يومها إمضاء مصرمعاهدة الإستقلال مع الإنجليز بإملاء هذا الكتاب، وخشيته من ألاّ يُقدّر شباب مصر تبعات هذا الإستقلال،وألاّ يقدّروا الحريّة التي اكتسبوها حقّ تقديرها. وأنّه يريد كما يريد كلّ مثقّف محبّ لوطنه، حريص على كرامته، ألاّ نلقى الأوربيّ فنشعر بأنّ بيننا وبينه من الفروق ما يبيح له الإستعلاء علينا، والاستخفاف بنا، وأن نثبت أنّ العقل المصريّ عقل غربيّ التّصوّر والادراك، والفهم، والحكم على الأشياء. فقام بالحفرعميقا في تاريخ العقل المصري فوجده وثيق الصّلة بتطوّر العقل اليوناني الّذي رجع اليه الغرب لتأسيس حضارته ومنظومته الثّقافيّة الحديثة.
وكالعادة أثار الكتاب الجديد لغطَا بدعوته الى اتباع الثقافة الغربية بالجملة فكرا وفعلا، أو بالأحرى دعوته الى التّفكير والإبداع تحت عباءة الثّقافة الغربيّة. فلم يتوقّف طه حسين هذه المرّة عند الدّعوة الى نقد أدبنا العربي بنظمه ونثره وفق منهجها وحسب.بل دعا الى صياغة شخصيّتنا وثقافتنا وفنوننا على نهجها.وأنكرعلى مصر ثقافتها الشّرقيّة وأخرجها من فضائها الإسلامي، وأجهد نفسه في البحث عن جذورها اليونانيّة، وهذا مُلخّص ما جاء في الكتاب:
ـ مصرُ ثقافيّا وحضاريا، هي دولة غربية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من دلالة. فالعالم ينقسم إلى حضارتين لا ثالث لهما. الأولى، تأخذ جذورها من الحضارة المصرية القديمة، وفلسفة اليونان، والقانون الرومانى، والثانية تأتى من الهند.
ــ مصر تنتمى إلى الحضارة الأولى. فلماذا إذن ينظر المصريّون إلى أنفسهم على أنّهم من أهل الشرق؟ يأتى هذا بسبب اللغة والدين. والمشاركة في هموم الاحتلال والتخلف. وما دمنا متخلّفين مثل دول الشرق،ونتحدث بلغتهم، فنحن مع حضارة الشرق،ولكن تاريخ مصريقول عكس ذلك.
ــ مصرُ كانت عبر التاريخ على إتصال بدول البحر المتوسط وبحر إيجه. وكانت هي نفسها مهد حضارة غمرت الآفاق آلافًا من السنين.هذه الحضارة هي جذور وأصل الحضارة الغربية الحديثة. وخلال التاريخ كان تأثيرحضارة مصرعلى اليونان، وتأثيرحضارة اليونان على مصر واضحا ومستمرا. وحتّى عندما كانت مصر جزءا من الدولة الإسلامية.
ــ اذن فالعقل المصري القديم ليس عقلا شرقيا إذا فهم من الشرق الصين واليابان والهند وما يتصل بها من الأقطار.
ولم يتوقّف طه حسين عند الدعوة الى تجاهل تراث الاسلاميّ، بل كتب بصيغة افتتان بالأدب اليونانيّ وبالغ في تصويرهم على أنّهم أساتذة العالم في هذا الميدان، فكانت له محاولات في الترجمة، لم يُراعِ فيها الفوارق الذاتية والنفسية والاجتماعية بين الثّقافتين ولا طبيعة القارئ العربيّ المسلم الذي تستشين نفسه مثل هذا القصص. فكان ممّا ترجمه ملحمة “أوديب ملكًا” وتتلحض هذه القصة في “أنّ أوديب قتل أباه وتزوّج أمّه وأنّ أبناءه هم إخوته لأمّه، فأقتص من نفسه، وفقأ عينيه بيده،ونفى نفسه عن المدينة،وقتلت أمّه نفسها خنقاً”، وقد أظهر طه حسين اعجابه الشديد بهذه القصة وأمثالها من قصص الملاحم الاغريقية، وقال عنها أنّها منبع الآداب العالمية، واعتبرها فناً رفيعاً ‌لا تطاوله قصص العصر الحاضر، فجرّ بخطئه هذا نفسه والكثير ممّن اعتلّ بعلّته فسلك سبيله ونهج نهجه الى قعر وادي التّيه الّذي غرق فيه.
في مقابل طه حسين كان هناك شابّ عربيّ مسلم مولع بالقراءة والبحث والتّأمّل، يبحث في شروط نهضة الأمم،وعلِل الأفكار في العالم الإسلامي، وأسباب القابليّة للإستعمار. كان هذا الشّاب الّذي يعيش على أرض فرنسا هو مالك بن نبي، الشّاب الّذي أوتي رُشده والّذي جمع بين ثقافة الغرب الفكريّة والأدبية وبين تراث أمّة الإسلام والّذي استفاد من دراسته للهندسة والرّياضيّات ومن نهمه ومطالعاته في الفلسفة الغربية وكتابات المستشرقين في بلورة رُؤيته لحضارة الغرب وموقع العرب منها. وبعكس طه حسين الّذي لم يُجهد نفسه ويسألها كيف تفوّق الغرب علينا، بل كان كلّ الّذي فعله وقد انبهر بصور الجمال في الأدب الغربي، أن دعا الى التّخلّي عن الموروث العربي، وإعتناق الثّقافة والمناهج الغربيّة سواءً في البناء أو في الهدم (النّقد)، نظر ابن نبي بعين الحزن إلى الإستشراق وهو يتوغّل في الحياة العقليّة الإسلاميّة، والى النهضة الاسلامية وهي تتلقّى افكارها واتجاهاتها الفنية عن الثقافة الغربية. هذه الافكارالتي لا تقتصرعلى أشياء الحياة الفكرية الجديدية التي يتعوّدها الشباب شيئا فشيئا بل تتعدّاها حتى تصل الى ما يمسّ الحياة الروحية للمسلمن، واقتنع مالك أنّه لا يمكن لأحدٍ أن يضع الحلول والمناهج مغفلاً مكان أمّته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخُطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمّته. أمّا أن يستورد حلولا من الشّرق أو الغرب فإنّ في ذلك مضيعة للجهد ومُضاعفة للدّاء. إنّ كلّ تقليد في هذا الميدان هو جهل أوانتحار.” ثمّ حذّر مالك ممّا حذّرمنه الفيلسوف الألماني أسوالد اشبينجلر من أنّ لكلّ حضارة شخصيّتها المميّزة وفلسفتها ونظرتها الخاصّة للحياة. وأنّ الحضارات الضَعيفة اذا تمّت على ضفاف حضارت أقوى منها فإنّها تنمو نموّا مشوّها ووتتشكل تشكلا كاذبا تحت وطأة الحضارات القويّة.
هكذا نجد أنفسنا قد ختمنا هذا التّقديم بفكرة “التّشكّل الحضاري الكاذب” التي قال بها الألماني أسوالد شبينجلر والتي أدركها مالك بن نبي، والتي هي الأساس الّذي نبني عليه مقالتنا هذه. ونقول بما قال بها الفيلسوفان. أمّا شبينجلر ففسّر “الحضارة باعتبارها ثمرة لعبقريّة خاصّة، تَسِمُ عصرًا معيّنًا بميسم إبتداع أساسي.” . وأما مالك بن نبي فكان يرى “أنّ تكديس منتجات الحضارة الغربيّة عندنا (أشياءها) لا يُؤدّي بنا الى بناء الحضارة.”
2ــ التّشكّل الحضاري الكاذب
جاءت فكرة “التّشكّل الحضاري الكاذب” عند الفيلسوف أسوالد شبينجلر (1880ـ1936م) في أشهر مؤلّفاته “أفول الحضارة الغربيّة”، وفي سياق تفسيره لسقوط وقيام الحضارات. ويُحسن بنا قبل أن نخوض في ماهية فكرة “التّشكّل الحضاري الكاذب” أن نستقصي تصوّر شبينجلر للحضارة. فحسب ماجاء في كتابه فإنّ “الحضارة تولد في اللّحظة التي تستيقظ فيها روحٌ كبيرة، وتنفصل هذه الرّوح عن الرّوح الأوّليّة للطفولة الإنسانيّة الأبديّة، كما تنفصل الصّورة عمّا ليس له صورة، وكما ينبثق المحدود من اللاّمحدود. ومثله مثل ابن خلدون يرى شبينجلر أنّ الحضارة شبيهة في تطوّرها بالكائن الحيّ، لها طفولتها وشبابها ونضوجها وشيخوختها، وأنّها تموت حين تُحقّق روحها جميع امكاناتها الباطنيّة على هيئة شعوب، ولغات ومذاهب دينيّة وفنون وعلوم ودول، وأنّها عندما تُحقّق هذه الأمور وتستنزف امكانات روحها في تجسيد هذه الانجازات، تتخشّب وتتحوّل الى مدنيّة، وأخيرًا تتجاوز المدنيّة الى الإنحلال والفناء، ولن تعود بعدها أبدَا.”
ويرى شبينجلر أيضا أنَّ كلّ حضارة هي مستقلّة بذاتها وبتاريخها، وسماتها. وأنّ الحضارة الغربيّة التي هي جوهر بحثه “عندما تستنزف أسباب وجودها في الوقت المُقرّر لها،عندئذٍ لن تنشأ أيّة حضارة مرّة أخرى أو نموذج بشري يكون فيه تاريخ العالم شكلاً فعّالا كهذا الوعي اليقظ.” ولنتغاضى عن فكرة مركزيّة الحضارة الغربيّة التي قال بها شبينجلر كما قال بها غيره من المفكّرين الغربيّين ونواصل ذكر الأسباب التي ستؤدّي الى زوال الحضارة الغربيّة ومدى توافقها مع فكرة مالك بن نبي.
يقول شبينجلر”أنَّ للحضارة دستورًا أخلاقيّا يتمثّل في العقيدة وقوّة النّفس.وأنّ هذا الدّستور الحضاري لا يعتمد العقل أبدا،وانّما يعتمد الوجدان الممثّل في الشّعور لا الحسّ وأنّ العقلانيّة في شتّى مذاهبها هي فلسفة مدنيّة لا حضاريّة لذلك عندما تدخل الحضارة الدّور العقلاني من تطوّرها فإنّها تبلغ خريف عمرها، فتهوي الى الانحلال، وهذا ما يحدث الآن مع الحضارة الغربيّة التي استنفذت حسب شبينجلر جميع شرائط بقائها.
فالمدنيّة الغربية تعاني اليوم من أزمة روحيّة، وتُعاني من القلق والاضطراب،وهي تسعى بالحاح لتجد لها متنفّسا ومخرجًا ولكنّها وجدته في العدميّة والوجوديّة وما يُماثلها من اتجاهات فلسفيّة للحياة. ولأنّ سبينجلر آمن بأنّ كلّ حضارة مستقلّة بذاتها ولها عناصرها الخاصّة بها. فإنّه يستحيل عليها أن تستورد حلولا من خارجها لتستمرّ في بقائها، وبالتّالي ما عليها إلاّ أن تستسلم لمصيرها.
وبالحديث عن استحالة استيراد الحضارة حلولا من غير التي أنتجتها نصل الى فكرة “التّشكّل الحضاري الكاذب” التي قال بها شبينجلر ووافقه بن نبي لنبحث عن معناها ونوظّفها في بحثنا هذا للإستدلال عن السّبب الّذي جعلنا نحن الشّرقيين نبحث عن حلول لمشاكلنا الحضاريّة خارج نسقنا الحضاري العربي والاسلامي، ثمّ تفشل هذه الحلول في كلّ مرّة أو تكون نتائجها مشوّهة، أو تزيد من حدّة الدّاء بدل أن تخفّف منه.
استعار شبينجلر فكرة “التّشكّل الحضاري الكاذب” من علم المعادن والّذي يتحدّث عن ظاهرة غريبة في التّكوين الجيولوجي للمعادن، فيحدث أن توجد بلُّورات معدن من المعادن في طبقة من الصّخور، ثمّ يحدث أن يتشقّق هذا الصّخر فيتسرّب اليه الماء ويجرف هذه البلّورات من مواقعها، فتخلّف وراءها تجاويف داخل الصّخور، وعندما تحدث انفجارات بركانيّة وتتدفّق الكتل المنصهرة الى داخل تلك الشّقوق تتصلّب وتتبلور بدورها، ولكن ليس بشكلها الطّبيعي بل في ملء الأشكال الجوفاء التي خلّفتها البلّورات القديمة بفعل الماء. وهكذا تنشأ أشكال كاذبة ومشوّهة، يتناقض تركيبها الباطني وشكلها الخارجي، ويبرز نوع معيّن من الحجارة، ذو شكل غريب عن نوعها، وتُسمّى هذه الظّاهرة عند علماء المعادن بالتّشكّل الكاذب.
طبّق شبينجلر هذه الظّاهرة الطبيعة على تكوين الحضارات، ولأنّ الحضارة حسبه ماهي إلاّ تطوّر للرّوح أوالفكرة، وبالتّالي فإنَّ الحضارات تنمو مقفلة على نفسها،فليس هناك استمرار حضارة في حضارة أخرى وكلّ ما نسمعه هوعبارات لا معنى لها ولا قيمة. وعندما يكون هناك تأثير وتأثر فإنّه يكون سطحيّا والكائن الّذي ينتج عنه يكون مشوّها. هذا التّشوّه أو التّشكّل الكاذب نشاهده يوميّا في ميادين الحياة الاجتماعية، فلمسه في بؤس الفنّ وغياب الأصالة عن الأدب، وتعطّل الإبداع، وسطحيّة التفكير. فالحضارة كما يقول بن نبي تبيعك منتجاتها وأشياءها وسِلعها، ولكنّها لن تبيعك روحها وأفكارها وأذواقها وثرواتها الذّاتيّة. والشّعب الّذي يبحث عن الدّواء لمشكلاته الحضارية عليه أن يبحث عنه في صيدليّته هولا في صيدليّة الغرب،ففي صيدليّة الغرب قد تجد دواءً ولكنّه دواء مضاعفاته كبيرة،فإمّا أن تُشوّهك فتترك على جسمك عاهة مستديمة أو تقتلك. وهنا نرصد عنصرين رئيسيّين عند مالك بن نبي لهما علاقة بمنظومة القيم الخلقيّة والجماليّة، والنّظرة للحياة، وهذان العنصران هما الّذان يميّزان بين حضارة وأخرى، ويجعلان من كلّ حضارة منغلقة على نفسها. وإنّه ليحسن بنا أن نشرحهما ونفهمهما، فإذا فهمناهما أدركنا السّر في توقّف الإبداع عندنا والسّر في تشوّه ثقافتنا. والسّرّ أيضًا في عدم انطلاقتنا الحضاريّة التي بدأناها منذ قرن ونيف ولكننّا لم نبرح من يومها مكاننا.
3ــ منظومة الأخلاق وأذواق الجمال.
الأخلاق منحة من السّماء الى الأرض تأتيها مع نزول الأديان وعندما تولد الحضارات وهي عقد معنوي يضبط به المجتمع غلواء أبنائه، ويُنظّم به غرائزهم، بما له من صفة الإلزام الباطني،من أجل أن تكون لحياتهم معنى وهدف،وأيّ خروج على هذا العقد هو بمثابة خروج على مبادئ المجتمع ومثله العُليا.
أمّا مرجعيّتها فهي دينيّة وُجدانيّة، وهي الّتي توجّه سلوك الفرد وانفعاله مع مخرجات الوسط الّذي يعيش فيه. وتختلف صلابتها وتأثيرها عليه باختلاف صلابة العقيدة التي يُؤمن بها ومدى تمكّنها من نفسه.
والجمال شعور واحساس وُجدانيّ نحكم به على حُسن الصّورة المادّية الظّاهرة أو قبحها، ومدى الرّضا والقبول أوالإمتعاض من سلوكات وأفعال الآخرين. ويتباين الحكم الّذي نصدره بمقدار درجة جمالية الصّورة،أوبمدى انسجام الفعل الإنساني مع دستورالأخلاق الّذي التزم به أفراد المجتمع.
فالأخلاق والجمال كلاهما من أمر الرّوح. وبقدر ما ترتقي الرّوح في عالم الملكوت يرتقي ذوق الجمال وتسمو الأخلاق. فلا يُمكن لصورة قبيحة أو سلوكٍ مُشين إلاّ أن يوحيا بخيال قبيح ومِزاج مريض. والمجتمع الّذي ينطوي على صورٍ قبيحة لابُدَّ أن يظهرأثرهذه الصُّور في أفكاره وأعماله ومساعيه.
إذًا فهناك صلة بين المبدأ الأخلاقي والذّوق الجمالي تُكوِّن في الواقع علاقة عضويّة ذات أهميّة إجتماعيّة تُحدّد طابع ثقافة المجتمع واتّجاه حضارته. هذه العلاقة الخاصّة بين المبدأ الأخلاقي والذّوق الجمالي تنعكس على أسلوب حياة المجتمع وعلى سلوك أفراده وعلى نمط تفكيره، وعلى حدود ابداعه، وعلى انفعاليّته مع منتجات الآخر الثّقافيّة والحضاريّة.
والمبدأ أخلاقي+الذّوق الجمالي هما الّذان يُحدّدان لنا اتجاه الحضارة ورسالتها طِبقًا لترتيبهما في هذه المعادلة.
فنموذج يقوم فيه نشاط المجتمع على الدّوافع الجماليّة.
ونموذج يقوم فيه نشاط المجتمع على القيم الأخلاقيّة أوّلاً.
وهنا تنشأ المتناقضات بين المجتمع الغربيّ والاسلاميّ. فالثّقافة الغربيّة ورثت ذوق الجمال من التّراث اليوناني الرُّوماني، بينما الثّقافة الإسلاميّة ورثته من ميزات الفكرالدّينيّ السّامي.
ولنأتي بثلاث صور (أمثلة) نوضّح بها مدى تأثير هذا التّرتيب في ابداع العقل المُسلم، وفي موقفه من ابداع الحضارة الغربيّة.
ففي فكرنا الإسلامي قيم أساسية تحكم سلوك المسلم وتؤطّر ابداعه
1ــ قيم سلبية أو قيم التّخلي عن المحرمات.
بالأخلاق والفضيلة. 2ــ قيم إيجابية محفّزة على الإبداع لكن مع التحلّي
ومثال الصّورة الأولى:التّحدّي الّذي واجهه العقل المسلم عند انطلاقته الأولى لبناء حضارته الرّساليّة، فمن موقفه من فكرة تحريم التّصوير (نحت صور الكائن الحيّ) كانت استجابته الايجابيّة فقد استطاع أن يتجاوزهذا التّحدّي بنجاح باهر، فألتزم بمبدأ عدم التّصوير دون أن يتخلّى عن العمليّة الابداعيّة،بل عوّضها باللّجوء إلى فنّ الزّخرفة والاعتماد على صورأوراق الشّجر والنّباتات والأزهار، كما نقل الحرف العربي من مجرّد وسيلة للتواصل، وأداة للقراءة الى فنّ مبدع ذي أبعاد جماليّة تميّزت بها الحضارة الاسلاميّة عن باقي الحضارات الى اليوم. وأمّا في البناء والهندسة فقد انعكست صور الأنهار والماء والشّجر وصور السّرور والنّعيم في الجنّة على مخيّلته فأبدع قصر الحمراء وجنّات العريف بغرناطة. فكلّ من زارهما لابُدّ أن تستولي عليه الدّهشة والبهجة أمام الطريقة التي بُني بها القصر وأمام جريان الماء وانسيابه وانسجام ذلك مع حسن الزّهور وتناظرأشجارالبرتقال واللّيمون.
أمّا الصّورة الثّانيّة فكانت في الموقف من الآداب والأشعار اليونايّة فالحال الّذي كان عليه المسلم ومازال هو صفاء عقيدة التّوحيد والنّفورمن كلّ ما يُمكن أن يُفسد صفوهذه العقيدة وبخاصّة تعدّد الآلهة(أوالشّرك بالمصطلح القرآني) فالشّحنات الشركيّة الموجودة في الياذة هوميروس والأوديسّا تُمثّل صورة قبيحة عن الألوهيّة بعيدة كلّ البعد عن مراعاة حقوق الله تعالى. وقد حالت هذه الصّورة بينهما وبين العقل المُسلم فلم يجد فيهما ما يستهوي نفسه، فاستنكف عن ترجمتهما وأعرض عنهما، وقدّم مبدأه الأخلاقي على ذوق الجمال.
وأمّا الصّورة الثّالثة فنستعرض فيها تناقض الموقف من القصص الدراميّة بين العقل المُسلم والعقل الغربي الحديث، انطلاقًا من تراتبيّة الأخلاق والجمال في وعيهما. ولنأخذ مأساة “روميو وجوليات” لشكسبير وكيف ينظر كِلا العقلين الى نهايتها المأسوية، فالقارئ الغربي ينظر الى المأساة من منظورٍ جماليّ وسيذرف الدّمع على تلك النّهاية الجميلة لحبيبين حالت بينهما أعراف المجتمع والأحقاد التي بين عائلتيهما دون أن يتزوّجا فاختارا الانتحارأوالموت وسيلة للإجتماع بينهما ورفضاً لتك الأعراف. أمّا العقل المُسلم فسينظرالى النّهاية من منظورٍ أخلاقيّ وأنّه مهما كان حجم الشّقاء والألم فإنّه لا يصحّ أن يضع الإنسان حدًّا لحياته بأي حال من الأحوال والانتحارمن المنظورالأخلاقي جريمة في حقّ النّفس وموقف جبان أمام مصاعب الحياة.
لقد ترجم طه حسين قصّة “أوديب ملكًا” و كتاب ” من فن التّمثيل اليوناني” وبالغ في مدح الأدب اليونانيّ ولكنّه لم يقدرأن يسوق نفسه في طريق الأدب اليونانيّ فيكتب على شاكلته وانتهى به الأمر أن عاد الى التّراث الإسلامي فنهل منه وأبهر بالكتابة فيه.
4ــ ازدواجية الوجود بين عالم الغيب والشّهادة.
تختزل الحضارة الغربيّة الحديثة الوجود في الحياة في العالم المرئي (وبالتّعبير القرآني في عالم الشّهادة)، وتحصر الغائيّة الحياتيّة في اللّذّة والمتعة، والسّعادة في ذروة النّشوة والهياج والمرح،وامتلاك الحاجات الشّيئيّة والاستهلاك.فالوجود كما في كتابات سارتر وكامو بلا معنى وينبغي أن نقبله كما هو، ولأنّه بلا معنى ينبغي أن نتخيّل أنفسنا فيه سعداء، أونُوهمها بأنّننا سُعداء.
أمّا نيتشه فرفض فكرة الكنيسة التي تُنادي بالتّعالي الرّوحي على الحياة واحتقار الجسد. ورفض منظومة الأخلاق الدّينيّة واستهزأ بقيم الخير في الانسان ودعا الى اعادة تقييمها والتّخلّص منها، وتبنّي قيم جديدة تكون مختلفة عن القيم التي يتعلّمها الانسان في أسرته ومجتمعه ومدرسته وبيئته الدّينيّة ليتحوّل من إنسان عادي ضعيف الى انسان خارق قويّ. والّذي يتعالى على الأخلاق والقانون وأي قواعد خارجيّة تضبط سلوكه وأفعاله وتُقيّد حرّيته. هذه القيم الجديدة يجب أن تستند إلى الغريزة التي هي العلّة الأولى والأخيرة عند نيتشه لأي فعل ابداعي. وبفلسفة “موت الإله” و”الإنسان الخارق” بنى الغرب حضارته الحديثة بعيدًا عن التُّراث الإيماني المسيحي. وعلى أساس مُسلّمة “أحاديّة الوجود” فسوّى بين المبدأ والقوّة، وأعلى من شأن المصلحة أمام الفضيلة، وغاص في الماديات والشّيئيّة.
وبخلاف فكرة الحضارة الغربيّة عن الوجود فإنّ الفكرة الدّينيّة (الإسلاميّة) التي تقول بازدواجّة الوجود الانساني تخلق في قلوب المجتمع حِكمةً غائيّة معيّنة وذلك بمنحها إيَّاها الوعي بهدف تُصبح معه الحياة ذات دلالة ومعنى. دون أن تُلغيَ الحيويّة الحيوانيّة التي تُمثّلها الغرائز ولكن تُنظّمها في علاقة وظيفيّة مع مقتضيات الفكرة الدّينيّة. وعلى أساس مسلّمة ازدواجيّة الوجود تكون فعاليّة الانسان المسلم وانفعاليّته من كل حدثٍ فكري وسياسي أوتشريعي.
ونلحظ تأثيرفكرة ازدواجيّة الوجود وأحاديّته على الابداع الأدبي واختلافه بين الرّؤية الغربيّة والاسلاميّة في قصّتين أدبيّتتين احداهما لفيلسوف مُسلم عاش في القرن الثّاني عشر هو ابن طفيل ورائعته “حيّ بن يقظان” والثّانية هي قصّة الانجليزي دانيال ديفو”روبنسون كروزو” الّذي عاش مع بداية القرن الثّامن عشر. فالرّوايتان وان كانت أحدثهما تدورعلى جزيرتين نائيتين وفي نفس ظروف العزلة الحسّية عن البشريّة إلاّ أن تفكير بطليهما وسلوكهما على أرض الجزيرتين اختلف لإختلاف ثقافة مؤلفي القصّتين واختلاف نظرتيهما الى الوجود، فابن طفيل المسلم الّذي يُؤمن بازدواجيّة الوجود جعل من بطله يبحث عن الفكرة (حقيقة الوجود)منذ أن بلغ رشده وأصبح يُميّز وإستغلّ عالم الأشياء حوله للوصول الى عالم الأفكار، وأمّا دانيال ديفو فدفعته رؤيته لانحصار الوجود الانساني في هذا العالم المرئي الى أن جعل من بطل قصّته يهتم بحاجاته الحياتيّة في ظروف صعبة جدا وبعيدا عن أي مدنية وتكديس الأشياء للتّكيّف مع هذه الظّروف.
ميدان آخر يبدو تأثيرفكرة ازدواجيّة الوجود الانساني أكثر وضوحًا وهو ميدان التّشريع أو القانون. فاذا كان الهدف من القانون حماية مصالح النّاس وتحديد حقوقهم وواجباتهم في مواد آمرة و أخرى ناهية تُلزم الأفراد بالإستقامة معها بأن تحدّد عقوبات لمن ينتهكها.
فيقبل الانسان الغربيّ القانون مادام يحميه ويحفظ مصلحته ومادام المجتمع الّذي يعيش فيه يقبل به. لكن الأمر يختلف بالنّسبة للانسان المسلم المؤمن بازدواجيّة الوجود. فالحقّ والواجب لن تكون لهما قوّة قاهرة على ضميره ولو كانا في صالحه ماداما يتناقضان مع مبدئه الأسمى، ولا يرتاح لهما. فالمرأة المُسلمة مثلاً، مهما شُرّع لصالحها من قوانين مساواة مع الرّجل، فلن تقبل بها مادامت مقتنعة أن ما شرّعته لها السّماء هوخيرٌ لها. وستحسّ بالحرج من القوانين التي تجيزالتّعرّي والسّفور، وسترفض القوانين التي تُساوي بينها وبين الرّجل في الميراث، وان شذّت بعضهنّ فإنّ أغلبهن لا يقبلن النّمط الغربي من التّفكير، فغيبيّة الدّين أوسع وأأمن من عقلانيّة قانون تُربك وتُشوّه الضّمير.
إنّ كلّ دعوة الى إفناء الثّقافة العربيّة في الثّقافة الغربيّة أواعتماد مناهجها في الابداع والباسها لونًا من ألوان أثوابها دون مراعاة لأصالة الفكرة الاسلاميّة لن تُنتج لنا أكثر من مولود مشوّه، أو ثقافة متشكّلة تشكلاّ كاذبًا وسنبقى في نقطة انطلاقتنا التي بدأنا منها منذ أكثرمن مئة وأربعين عام ولن نستطيع فعل أكثر من ترجمة منتوجات الحضارة الغربية دون أن نستفيد منها في شيئ. لأنّ تصوّراتها غير تصوّراتنا وغاياتها غير غاياتنا.
نورالدّين بحوح

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
2
  • التقدم إلى الخلف

    يقول إبن خلدون: المغلوب مولع بتقليد غاليه ويدين بدينه (ربما يقصد هنا الملة والتفكير أيضا). فالغرب غير من أفكارنا لنستهلك منتجاته لهذا يرى ثقافتنا وديننا عائق أمام فكرته الأساسية المبنية على مبدأ إقتصادي مهم وهو الإستهلاك. فالمشكلة لديه تكمن في الاستهلاك لا الانتاج أما باقي الامور الثقافية والفكرية ما هي إلا نتيجة لهذا المبدأ المحصور بين الحياة والموت.إذا فلكل قضية في هذا العالم تبدأ بسبب وتنهي بنتيجة. إذا كانت النتيجة هي التبعية فالسبب هو قبول أفكارها. فالحل يكمن في رفضها. والبديل الذي لا بد منه هو أن نفكر ونفكر ثم نعمل ونعمل...ونعمل.

  • رضوان

    ما تزال للأسف هذه المنظورات المستلبة هي من تؤخر اعادة احياء أصالة حضارتنا بقيمها وأخلاقيتها التي تستنجدها البشرية وتحتاجها لتنجو من السقوط والانهيار الذي قادتها اليه مادوية الغرب والمفتتنين به أمثال طه حسين وامتداداته الثقافية التي تطل علينا تارة باسم البربرية وتارة اخرى باسم الحضارة المتوسطية، وكل ما يمت بصلة الى ما سماه الأستاذ مالك بن نبي بالقابلية للاستعمار