-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

بين صُنّاع اليأس وصُنّاع الحياة

بين صُنّاع اليأس وصُنّاع الحياة

اشتهر قول مأثور للشيخ ابن باديس رحمه الله: “إذا أُعجِب المرء بنفسه عَمِيَ عن نقائصها فلا يسعى في إزالتها، ولَهِيَ عن الفضائل فلا يسعى في اكتسابها، فعاش ولا أخلاق له، مصدرا لكل شر، بعيدا عن كل خير”.
استوقفتني حكمة الإمام الشيخ ابن باديس رحمه الله، ورأيت أنّها تنطبق تماما على أناس كُثر في زمن الناس هذا.
ولمّا كانت النار تزيل خبث الحديد، والحق يدمغ الباطل فيزهقه، كذلك فإنّ من أهم وسائل كشف كُثُر من المعجبين بأنفسهم والعميان عن نقائصهم وتحييد أذاهم، إفساح المجال من جديد للحوار الجاد الصادق المنظَّم والمسؤول.
الحوار أسلوب حضاري إنساني يدحض حجج المتطاولين، ويكشف سوءة المتآمرين، ويزيل الغشاوة عن أعين المخدوعين.
وعندما يتأسّس الحوار على قيم العلم، ويُمَارَس منضبطا بقواعد الخُلُق، ويُدَار بكفاءة واقتدار بحماية قانونية عادلة وراشدة، لا يمكن إلّا أن يكون راشدا نافعا ومفيدا.
إنّ حرية التعبير لا يمكن أن تظل نصا دستوريا أجوفا، ولا يمكن أن يُعتَدَّ بها ما لم يُرَ لها أثر في واقع الناس. ولعلّ أبرز مظاهرها فتح مجال الحوار الدائم وتنظيم فضاءاته في مختلف مجالات صناعة الرأي في المجتمع.
وإنّ من فضائل الحوار وفوائده:
– كشف الرداءة الخادمة للزبونية، والمتصيِّدة لأعراض الناس وتتبع خصوصياتهم الشخصية والأسرية والاجتماعية.
– تأسيس وترسيم عهد جديد للإقناع والمصارحة وطرح البديل.
– خادم لبناء وعي وطني يدفع إلى الوئام وتعزيز شعور الانتماء المشترك.
– مُحبِط لمخططات التدمير التي تُنفِّذها جهات متعددة في الداخل والخارج، والمنتشرة تحت شعار نشر الوعي، والخادمة لأهداف من يُؤَمِّن لها الحماية والتمويل وتوفير وسائل متعددة ومتنوعة وذلك بغرض تحقيق أهداف التشويه، والتمزيق، والإحباط، والفوضى مستغِلة كل ظاهرة أو أزمة أو ظرف صعب لتجعل منه دليل إثبات على صحة مقاربتها وهي تَدَّعي بذلك أنّها تحسن صنعا.
– كما أنّ الحوار ظاهرة صحية، وعلامة استقرار، ودليل ثقة في صحة الخيارات المنتهجة في التنمية الشاملة.
– إنّه تكريس عملي وواقعي للحقوق والحريات المضمونة دستوريا للمواطنين وكل قُوّات المجتمع الحية.
– ووسيلة إخبار وإقناع متجددة وفاعلة بما يجري عندنا وحولنا إقليميا ودوليا مما يفضي إلى قطع الطريق أمام أي متربص لا يريد خيرا.
– وهو فوق كل هذا حق إنساني فطر اللهُ الناس عليه، فلا حق لأيٍ كان أن يمارس وصاية على حق الإنسان في التعبير عن آرائه دون أن يُلحِق ضررا بحقوق الآخرين. وإذا كان الله جل جلاله القادر المقتدر حاور إبليس ليُقِيم الحجّة عليه ويكشف حقيقته لبني آدم فلا يحق لآدمي أن يَحرِم آخر من هذا الحق الطبيعي الأصيل.
إنّ ثقافة الحوار يمكن أن تُنظَّم بطرق شتى. ولقد أفرزت المجتمعات المتمدينة لنفسها إبداعات شتى في هذا المجال، ومنها ما يُعرف في بعض البلدان بثقافة النوادي.
تصوروا معي لو انتظم المجتمع في نوادي لمختلف فئات النشاط الاجتماعي، للأطّباء وقطاع الصحة ناديهم، وآخر للقانونيين على مختلف درجاتهم وميدان عملهم، وثالث للمهندسين على مختلف تخصصاتهم، ورابع لأسرة التربية والتعليم على مختلف مستوياتهم، وخامس لأسرة الإعلام وصُنّاع الرأي، وسادس للمستثمرين والصناعيين، وسابع لقطاع الفلاحة والبيطرة، وثامن وتاسع… إلخ
يلتقي كل أعضاء النادي في مختلف فروعه على مستوى التراب الوطني يتبادلون الرأي حول أحوالهم وأحوال قطاعهم ودوره في خدمة المجتمع، كما يناقشون مشاكلهم، ويبادرون بحلِّها، وتتعارف عوائلهم ببعضها، وهكذا على مستوى كل ناد.
ومع مرور الزمن وتكدس الخبرة، يفتح كل ناد النقاش مع النوادي الأخرى فيتوسع نطاق الحوار بشكل أكثر تنظيما وأكثر فعالية، وهكذا تختلط الأنفاس، وتتبادل التجارب، وتتلاقح الآراء والاقتراحات ليجد المجتمع نفسه في المُحصِّلة مُؤَطَّرا من طرف نخبته فيرتفع وعيه، ولا يكون لأصوات الغثاء والمزايدين والمحبِطين والحاقدين والجاهلين والشعبويين أي فرصة للوصول لأهدافهم، ويتحصّن المجتمع بمن يقومون فعلا بخدمته ويعيشون بين ظهرانيه ويشاركونه أفراحه وأتراحه ويتقاسمون همومه وآماله.
إنّ مجتمعا تقوده نخبته مجتمع محصَّن ذاتيا بوعي حقيقي يُميِّز بين الغثّ والسمين، ويكشف بكل سهولة عبدة أهوائهم من الطامعين والطامحين والذين يتخذون من بعض مشكلاته حقلا لزرع التفرقة والكراهية للوصول إلى تمزيق نسيجه وضرب وحدته وتلاحمه، ولعلها الأهداف الخبيثة التي كُلِّفوا بتحقيقها.
إنّ الكذب لا يمكن أن يُهزَم إلّا بالصدق، كما أنّ النار لا تُطفأ إلّا بالماء، وإنّ مقاومة عُبَّاد الهوى وتأليه الذات لا يكون إلّا بصناعة الحياة بجد والتزام من قِبَل نخبة المجتمع بمختلف درجاتها وتخصصاتها وميادين أنشطتها.
أتمنى أن تُفتَح الفرصة أمام نخبة بلادنا حتى يُطَلِّقوا هذه الاستقالة غير المُعلَنَة وينتظموا في لعب الدور التاريخي الذي ينتظره شعبهم منهم كما فعل أسلافه من العلماء والمجاهدين.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!