-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تدمير مخيم جنين لطمس الهوية الفلسطينية

لؤي صوالحة
  • 232
  • 0
تدمير مخيم جنين لطمس الهوية الفلسطينية
أرشيف
تعبيرية

في مشهد بات مألوفًا لكنه لا يقلّ فظاعة، عادت جرافات الاحتلال الإسرائيلي لتجتاح أزقة مخيم جنين، مخلّفةً وراءها سلسلة جديدة من البيوت المهدّمة، وأسرًا بلا مأوى، وذاكرة جماعية تُستهدف من الجذور.

في ساعات الفجر الأولى من يوم الخميس، دفعت سلطات الاحتلال بتعزيزات عسكرية مدجّجة، مصحوبة بجرافات ضخمة، من حاجز الجلمة العسكري نحو المخيم، تمهيدًا لهدم عشرات المنازل السكنية. عدوان متجدد… واستراتيجية تدمير شامل بحسب شهود عيان وتقارير محلية، فإن العملية الأخيرة تستهدف 95 منزلاً، تتركّز في الحارة الغربية وشارعي السكة وعبد الله عزام، بعد أن وُجّهت لأصحابها أوامر إخلاء مساء الإثنين الماضي. هذه الخطوة لا تأتي بمعزل عن السياق العام للعدوان الإسرائيلي المتواصل على شمال الضفة الغربية، حيث تحوّلت المخيمات الفلسطينية إلى ساحات مفتوحة أمام جرافات الاحتلال ونيرانه. يشير تقرير صادر عن بلدية جنين إلى أن الاحتلال هدم ما يزيد عن 600 منزل في المخيم منذ بدء الهجمة الشرسة في 21 كانون الثاني/ يناير 2025، منها ما دُمّر بالكامل، ومنها ما أُصيب بأضرار جزئية أدت إلى انهياره لاحقًا. وقد تسببت هذه الحملة بتهجير آلاف العائلات قسرًا، في مشهد يُعيد إلى الأذهان نكبة عام 1948، ولكن هذه المرة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة نفسها. جرافات الاحتلال لا تهدم البيوت فقط… بل تهدم الاستقرار “لم يبقَ لنا شيء”… بهذه الكلمات اختصر محمد الصباغ (47 عامًا)، معاناة عائلته بعد أن هُدم منزلهم فجأة:

“استيقظنا على أصوات آليات الاحتلال تحيط بالمنزل من كل الجهات. لم يسمحوا لنا بإخراج شيء. حتى صور أبنائي، دفاتر المدرسة، كل شيء أصبح تحت الركام.”

تلك الرواية تتكرّر مع مئات العائلات التي باتت تُخلي منازلها في اللحظات الأخيرة، دون سابق إنذار فعلي أو إجراءات قانونية، وسط تجاهلٍ كامل لأبسط المعايير الدولية لحقوق السكان المدنيين تحت الاحتلال. البيوت التي تُهدم ليست مجرد أبنية إسمنتية، بل هي مراكز لحياة اجتماعية، ومخازن لذاكرة جماعية، وتوثيق لوجود ممتد منذ عقود، في ظل لجوء قسري لم يتوقف منذ 76 عامًا. خطة تطهير عمراني.. تحت غطاء “الأمن” تُبرر إسرائيل هذه العمليات على أنها “ضرورات أمنية” لمحاربة “البنية التحتية للمقاومة”، لكن الوقائع على الأرض تكشف عن نوايا أعمق تتعلق بإعادة تشكيل المخيمات الفلسطينية بالكامل، وتفكيك معالمها وهويتها من خلال سياسة تطهير عمراني ممنهج. تقول مريم أبو الهيجاء (60 عامًا)، وهي لاجئة من قرية زرعين المهجّرة عام 1948:

“هدموا بيتي الآن، كما هدموا بيتنا الأول في زرعين. كلما حاولنا أن نعيد بناء الحياة، يعود الاحتلال ليبدأ الهدم من جديد.”

ما تتعرض له المخيمات، وخاصة جنين وطولكرم ونور شمس، يُمثّل أكثر من حملة عسكرية؛ إنه مشروع استعماري يهدف إلى إلغاء المخيم كرمز وطني وثقافي للنكبة الفلسطينية المستمرة. أزمة نازحين… وكارثة إنسانية تتفاقم أسفرت هذه الحملة عن تهجير أكثر من 50 ألف فلسطيني من شمال الضفة، يعيشون الآن بين مدارس مُحوّلة إلى ملاجئ، أو بيوت أقارب مكتظة، أو خيام أقيمت على عجل في ضواحي المدن. وتفتقر هذه الملاجئ المؤقتة إلى الحد الأدنى من الخدمات الأساسية: المياه، الكهرباء، الرعاية الطبية، وحتى الأمن. تشير منظمات إنسانية عاملة في الضفة الغربية إلى أن الوضع بات كارثيًا في المخيمات، حيث يعاني الأطفال من صدمات نفسية متكررة، والنساء من أوضاع صحية حرجة، وكبار السن من انعدام الرعاية. ورغم المناشدات المتكررة، لم يُسجل أي تحرك دولي فعال للجم الاحتلال أو محاسبته على هذه الجرائم. صمت دولي مريب… وشهادة على العجز الغريب في الأمر ليس فقط حجم الجرائم التي تُرتكب، بل الصمت الدولي الصارخ تجاهها. ورغم أن القانون الدولي يُصنّف هدم المنازل وتهجير السكان تحت الاحتلال كـ”جريمة حرب”، فإن مؤسسات المجتمع الدولي تقف عاجزة، مكتفية ببيانات إدانة باهتة لا تُغني ولا تُجدي. في المقابل، تتصاعد مطالبات فلسطينية وعربية وحقوقية بضرورة فرض عقوبات على سلطات الاحتلال، وتفعيل آليات ملاحقة قضائية في المحكمة الجنائية الدولية، وفتح تحقيقات أممية في الجرائم المرتكبة ضد المدنيين الفلسطينيين في المخيمات. جنين لا تنهزم… ذاكرة النكبة باقية ورغم كل هذا الظلم والدمار، لا تزال جنين تقف على قدميها. المخيمات التي نشأت من رحم النكبة تحوّلت إلى قلاع صمود ومقاومة، تتحدى الزمن والقوة، وتحمل راية الاستمرار في الدفاع عن الأرض والكرامة. كل شارع يُجرف، يُعيد الفلسطينيون رصفه بالإرادة. وكل بيت يُهدم، يُبنى مكانه حلم جديد. ففي جنين، لا يوجد مكان للاستسلام، بل إصرار متجذّر في الوعي الجماعي على البقاء، مهما اشتدّت عواصف الهدم والتهجير. دعوة أخيرة… ومسؤولية جماعية إن ما يجري اليوم في مخيم جنين ليس شأنًا فلسطينيًا فقط، بل هو قضية إنسانية كونية، تتعلّق بحق الإنسان في العيش بكرامة، في الحفاظ على منزله، في أن لا يُشرَّد للمرة الثانية والثالثة، بينما يتفرّج العالم. وعليه، فإن الواجب يقع على عاتق كل مؤمن بالعدالة وحقوق الإنسان: على المجتمع الدولي أن يخرج عن صمته، وعلى المنظمات الحقوقية أن تتحرك لمساءلة الاحتلال، وعلى وسائل الإعلام العالمية أن تسلّط الضوء على الجريمة، وعلى العرب والفلسطينيين في الخارج أن يُعلوا صوتهم في كل منبر. لأن الصمت اليوم، هو تواطؤ، والهدم الذي يصيب جنين اليوم، قد يصيب كل مكان غدًا إذا غابت العدالة. جنين تُهدم، لكنها لا تنهزم. في الركام تنبت الحكايات، وفي كل نازح، روح لا تنكسر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!