ترمب.. تجارة بالصدمة!

لم يكن الرئيس الأمريكي ليشغل العالم، لولا مفعول القنابل الغبية وغير الأخلاقية، التي رماها منذ الساعات الأولى لوصوله البيت الأبيض.. قنابل صادمة وعنيفة وغير مسبوقة. لقد أعلن رغبته في الاستحواذ على كندا وأجزاء من أراضي السويد والسطو على قناة بنما.. والأخطر من ذلك، تقديمه خطة تهدف إلى تفريغ غزة من سكانها وتهجيرهم نحو مناطق خارج حدود الوطن الفلسطيني.
ترامب تاجر العقارات الشهير، وهو يلعب الدور الذي رسمته له الصهيونية النازية، سعى عبر مقترح التهجير والتفريغ إلى إحداث صدمة بهدف شل الآخر وإنهاكه نفسيا، ومن ثم الإجهاز عليه في مرحلة لاحقة، في ما يسمى مرحلة التنازلات أو المفاوضات.
لقد كان مسعى ترمب من خلال ذلك إحياء تقليد استعماري يمتد في التاريخ الاستعماري إلى ستينيات القرن الثامن عشر “1864”، حين قامت فرنسا بتنفيذ خطة تهجير للجزائريين نحو كاليدونيا الجديدة، على بعد قرابة ألفي كيلومتر. في محاولة لسحق المقاومة الشعبية وإحداث الفراغ في الأرض، وتسليمها في ما بعد إلى المعمرين من حثالة أوروبا ومجرميها.
تصريحات ترمب الاستفزازية والخطيرة صدمت العالم، وفضحت شراهة النموذج الأمريكي في الاستحواذ على الثروات والأراضي، وإخضاع الشعوب والإجهاز على المنهَك منها. غير أن “تاجر العقارات” وهو يواجه موجة الاستهجان الدولية، عاد ليخفض سقف المقامرة، عبر المراوغة والخداع الكلامي. وقد أيقن أن الفكرة لا سند لها في الواقع ولا مساندا غير كمشة الصهاينة، فبدأ بالتراجع عبر شروح تجتهد في تقديمها الناطقة باسم البيت الأبيض التي أعادت رمي كرة الثلج في اتجاه دول عربية بعينها، من خلال سعيها لتوريط تلك الدول في هذا المخطط المشؤوم.
وبغضّ النظر عن قدرة الولايات المتحدة الأمريكية ورغبتها في الذهاب بعيدا في تصفية القضية الفلسطينية، عبر ربيبة الإمبريالية في المنطقة أو عبر وسائل غير تقليدية في النزاعات الدولية، تبقى المقاومة المتغير الأساسي في مواجهة عملية الاقتلاع من الأرض، وإلى حد الآن، لم يتمكن الفكر الاستعماري من تحقيق مشاريعه، ولا يمكن أيضا للولايات المتحدة الأمريكية، التي تقود هذا الجنون الإنساني عبر فلسفات نازية تستمد وجودها من الغزو الأوربي للأمريكيتين، وتم إعادة إحيائها عبر “مبدأ إزنهاور” فيما عرف بمشروع ملء الفراغ في الشرق الأوسط، بمعنى الحلول محل الاستعمار وإعادة احتلال الدول والبلدان التي خرجت لتوّها من سطوة السيطرة الغربية، عبر أساليب غير تقليدية. وهذا، في الواقع، ما تحاول إدارة “تاجر العقارات” فعله في غزة.
ورغم صدمة الإعلان، فقد استوعب الفلسطينيون الارتدادات الأولى، وبدأت ردود الفعل الرافضة لأي مساس بواقع الأرض عبر حماس والفاعلين السياسيين في كامل فلسطين، خاصة وأن مساعي التهجير لم تتوقف يوما، فقد عرف التاريخ القريب للفلسطينيين عشرات عمليات التهجير والاقتلاع من الأرض، ورغم ذلك بقيت غزة صامدة، وقد يبدو الأمر فيه بعض الدعابة، لكن رسالة السفير الفلسطيني في الأمم المتحدة إلى الرئيس ترمب، التي طالبه فيها بأن يسمح للفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم المحتلة، لأن لهم فيها بيوتا جميلة أخذها الصهاينة عنوة، هي تعبيرٌ قوي على قدرة شعب الجبّارين على امتصاص الصدمة والانطلاق في رد الفعل، واستغلال المساحات المتاحة في القرار الدولي، من أجل العودة إلى حل الدولتين كمرحلة أولى.
لقد حاول ترمب من خلال دعوته إلى تفريغ القطاع وتهجير الفلسطينيين إلى وطن بديل، إحداث ضرر في الجسد الفلسطيني ودفعه بعدها نحو المسلخ، في مفاوضات لاحقة، للتخلص من كياناته المقاومة أو شخصيات بعينها وخاصة من حركتي فتح وحماس، وتفريغ القطاع من روحه القتالية، ليضمن للصهاينة المستوطنين بعض الهدوء فوق بركان فلسطين، وهو بركان هادر، سينفجر يوما، وستأخذ حممه فلسفات أسلاف ترمب وترّهاته إلى غير رجعة.