تسابق النفوذ بين المغرب والإمارات في الساحل.. ديبلوماسية الزوايا أم نفوذ المرتزقة؟

بينما تتوالى فصول الحضور العربي في منطقة الساحل الإفريقي، بدا واضحًا من خلال مقال سابق أن هناك مدرستين مختلفتين في كيفية بناء النفوذ ومراكمة التأثير: واحدة تتحرك بثقل المال والأمن والتكنولوجيا، وأخرى تنسج وجودها بخيوط الروح والدين والتاريخ.
هكذا تبرز أبو ظبي والرباط كنموذجين متوازيين، وربما متصادمين، في مقاربة المجال الإفريقي. الأولى تستثمر في أنظمة الحكم، وشبكات القوة الصلبة، وشركات الأمن والاتصالات. والثانية تعوّل على المرجعية الدينية، التكوين الصوفي، والدبلوماسية الثقافية الناعمة.
قد لا يبدو بينهما خلاف ظاهر، لكن تحت هذا الهدوء، يتحرّك سباق رمزي وواقعي على موقع التأثير في منطقة تتغير بسرعة، وتعيد رسم خريطة التحالفات والهويات والشرعيات.
فهل نحن أمام تقاسم أدوار ضمني؟ أم أن التقاء المصالح يخفي تنافسًا جيوسياسيًّا متناميًّا؟ وهل يمكن للنموذجين أن يتكاملا في إدارة النفوذ العربي في إفريقيا؟ أم أن تصادم الرؤى مسألة وقت فقط؟
في هذا الجزء، نُسجّل لحظة التقاء نادرة بين دبلوماسية الزوايا ومشاريع المرتزقة، بين خطاب الرباط ورادارات أبو ظبي، لنستكشف كيف تُصاغ السلطة من خارج الخرائط، وبأي نموذج تُفرض.
تكامل أم تنافس؟
من السهل أن يبدو الحضور الإماراتي والمغربي في الساحل الإفريقي وكأنه مجرّد تواجد متوازٍ في جغرافيات متفرقة. لكن عند التمحيص في الأدوات والأهداف والمواقع، يتضح أن ما يجري ليس فقط انتشارًا تكتيكيًّا، بل تسابق ضمني على النفوذ والتأثير، يعكس اختلافًا في الرؤية، والأسلوب، والأولويات.
رغم تقاطع المصالح بين البلدين في ملفات متعددة، كمعاداة الإسلام السياسي، ومساندة الاستقرار الأمني، والانفتاح على الشراكات الغربية، إلا أن التباين في الآليات والتحالفات يجعل العلاقة بينهما في منطقة الساحل أقرب إلى التنافس غير المعلن منه إلى التنسيق المنهجي.
الإمارات: نفوذ سريع ومباشر ومحسوب النتائج
تعتمد أبو ظبي في تحركها على :أدوات الأمن والتكنولوجيا، وقنوات خلفية عبر شركات خاصة أو بعثات إنسانية، وعلاقات مباشرة مع النخب العسكرية والسياسية الجديدة (خاصة بعد الانقلابات)، وشراكات متغيرة وفق التحولات الميدانية.
يشهد التعاون بين الإمارات والمغرب مع الكيان الصهيوني في منطقة الساحل في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا. يتركز التعاون بشكل أساسي في المجالات العسكرية والاستخباراتية. على سبيل المثال، يقدّم الكيان دعمًا تقنيًّا في مجال الطائرات من دون طيار، التي تعدّ واحدة من أبرز الأدوات التي تستخدمها الإمارات والمغرب لمراقبة الحدود، ورصد تحركات الجماعات الإرهابية.
هدفها الظاهر هو: محاربة الإرهاب والمساهمة في الاستقرار. في حين أنّ الهدف الأعمق ينحصر في ضمان موطئ قدم في منطقة استراتيجية بين ليبيا وغرب إفريقيا، وتعويض جزئيا الفراغ الفرنسي، واحتواء خصوم إقليميين (تركيا، وقطر، وحتى إيران في بعض الملفات).
المغرب: نفوذ ناعم وطويل الأمد ومنخفض المخاطر
في المقابل، يركز المغرب على المدخل الثقافي والديني والتعليمي، ويبني علاقات مع المجتمع الديني والمؤسسات الرسمية بهدوء، مع تفادي الدخول في ملفات عسكرية مباشرة. ناهيك عن كونه يسعى لبناء “صورة نموذجية” للحضور المغربي في إفريقيا، كما يظهر ذلك في شعارات “جنوب- جنوب”، و”العمق الإفريقي”.
تعتبر الرباط أن منطقة الساحل امتدادٌ استراتيجي طبيعي لأمنها القومي، غير أنها تتحرّك ضمن هامش لا يستفز القوى الكبرى، ولا يجعلها في مرمى النيران الجيوسياسية.
أين يتقاطع البلدان؟
في محاربة الإسلام السياسي؛ فكلا البلدين يرفضان تواجد الإخوان أو الجماعات المتشددة. كما ينسّقان أمنيًّا مع باريس وواشنطن، لكن بأسلوب مختلف. ناهيك عن دعمهما المستمرّ لأنظمة “مستقرة” ولو غير ديمقراطية.
في الخطاب الرسمي: من خلال ترويجهما للتنمية، ومحاربة التطرف، والحياد الإيجابي. بالإضافة إلى دعمهما بناء القدرات المحلية بدل التدخل المباشر.
هذا بالإضافة إلى كونهما يعملان من أجل التنقيب والبحث عن نفوذ استراتيجي، خاصة بعد تراجع الدور الفرنسي التقليدي.
وأين يختلفان؟
من خلال الأدوات؛ ففي حين تستخدم الإمارات المال، والسلاح، والمرتزقة، والشركات. فإن المغرب يستخدم الدين، والتعليم، والثقافة، والدبلوماسية الناعمة.
من حيث التحالفات؛ ففي الوقت الذي تنسق فيه الإمارات أمنيًّا مع مصر وفرنسا والسعودية وأحيانًا روسيا. فإن المغرب يراهن وبشكل مباشر على كل من فرنسا وإسبانيا ودول الساحل.
أما على مستوى الملفات الجيوسياسية: يركز المغرب على خط الغاز نيجيريا– المغرب. في الوقت الذي تسعى فيه الإمارات للنفاذ إلى مناطق التعدين الإستراتيجية والبوابات البحرية.
هل هناك تنافسٌ فعلي؟
حسب دبلوماسي إفريقي بارز تحدّث لموقع Africa Report، فإن “الصمت الظاهري بين البلدين لا يخفي واقعًا من التنافس الصامت على من سيكون بوابة العرب إلى إفريقيا”.
ويرى محللون أن الإمارات تسعى إلى حجز موقع في إفريقيا جنوب الصحراء لتعزيز وضعها الدولي، خاصة في ظل ملفات حساسة كاليمن وإيران، بينما يعتبر المغرب إفريقيا منطقة امتداد طبيعي لحمايته الداخلية، سواء في ما يتعلق بملف الصحراء الغربية أو أمنه الروحي.
ورغم محاولات تجنّب التصادم، ظهرت توترات ناعمة في ملف دعم المغرب في الإتحاد الإفريقي (إذ كانت الإمارات في بعض الفترات مترددة). هذا بالإضافة إلى موقف الرباط من بعض العمليات الإماراتية في ليبيا وتشاد. ناهيك عن انفراد المغرب ببعض الملفات الدينية، مما أزعج دوائر إماراتية داعمة لتيارات سلفية.
المستقبل: تحالفٌ مرحلي أم تصادم مؤجل؟
قد يجد المغرب والإمارات نفسيهما، في ظل تفكك النظام الإقليمي التقليدي، وانسحاب قوى الغرب، وتمدّد الصين وروسيا، أمام أحد الخيارين: تحالف تكاملي مدروس يشمل تنسيقًا في تقسيم الأدوار، إذ تتكفل أبو ظبي بالأمن، والرباط بالثقافة والدين، مع دعم مشترك للأنظمة المتقاربة. أو تنافس خفي متصاعد إذ تبدأ الصدامات الناعمة على النفوذ الرمزي، والشراكات الاقتصادية، و”من يمثل العرب في إفريقيا؟”.
لا توجد، إلى حد الآن، مؤشراتٌ علنية على الخلاف، لكن تحليلات سياسية (مثل دراسة منشورة في ForeignAffairs) ترجّح أن “السكوت بين الإمارات والمغرب في إفريقيا ليس دائمًا، بل مرهون بتقاطع المصالح اللحظي، وقد ينفجر في حالة ما إذا تباينت الحسابات”.
من ثمّ، أمامنا نموذجان عربيان يتحركان بأساليب متباينة، وأهداف متقاطعة على نفس الرقعة الإفريقية: الإمارات حاضرة بوجه أمني واستثماري، سريع ومباشر. والمغرب حاضر بوجه روحي وثقافي، بطيء لكن عميق.
فهل نحن أمام شراكة استراتيجية أم تنافس ناعم يُخفي ما هو أعقد؟ ذلك ما ستكشفه تحولات الساحل في السنوات المقبلة.
الخلفية الصهيونية للتعاون الإماراتي والمغربي
شهدت السنوات الأخيرة تحولات سياسية كبيرة في الإمارات والمغرب، كان أبرزها اتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني؛ ففي سنة 2020م، وقّعت الإمارات اتفاقًا مع الكيان في إطار “اتفاقات أبراهام”، ثم تبعها في نفس السنة المغرب، ليشهد التعاون بين هذه الدول تناميًّا ملحوظًا في مختلف المجالات. على المستوى السياسي، سعى البلدان إلى توسيع دائرة علاقاتهما مع القوى الكبرى في المنطقة والعالم، وتحقيق أهداف استراتيجية على المستويين الأمني والاقتصادي.
لم تكن هذه التحولات مجرد تغيير في السياسة الخارجية، بل كانت تعبيرًا عن مصلحة استراتيجية في تعزيز الأمن الداخلي، خاصة في مواجهة التحديات المترتبة على الأنشطة الإرهابية. ومع دخول الكيان الصهيوني على الخط، أصبح التعاون بين هذه الدول جزءًا من استراتيجية أوسع تهدف إلى استقرار المنطقة وضمان المصالح المشتركة.
التعاون مع الكيان الصهيوني في منطقة الساحل
يشهد التعاون بين الإمارات والمغرب مع الكيان الصهيوني في منطقة الساحل في السنوات الأخيرة تطورًا ملحوظًا. يتركز التعاون بشكل أساسي في المجالات العسكرية والاستخباراتية. على سبيل المثال، يقدّم الكيان دعمًا تقنيًّا في مجال الطائرات من دون طيار، التي تعدّ واحدة من أبرز الأدوات التي تستخدمها الإمارات والمغرب لمراقبة الحدود، ورصد تحركات الجماعات الإرهابية.
إضافة إلى ذلك، تقوم أجهزة الاستخبارات الإماراتية والمغربية بالتعاون الوثيق مع نظيراتها الصهيونية في مجال جمع المعلومات الاستخباراتية حول نشاط الجماعات المسلحة في الساحل. يجري ذلك من خلال تبادل البيانات والمعلومات حول المواقع المشتبه فيها، وهو ما يساعد في توجيه العمليات العسكرية ضد هذه الجماعات.
ومع أن هذه الجهود تسعى لتعزيز الاستقرار في منطقة الساحل، فإنها تثير تساؤلات بشأن مدى تأثير التعاون الصهيوني في المنطقة على الدول المجاورة، خاصة في ظل المعارضة التقليدية للدول العربية لعلاقات دبلوماسية مع الكيان.
العوامل الاقتصادية والتهديدات الصهيونية
لا يقتصر التعاون بين الإمارات والمغرب والكيان الصهيوني على المجال العسكري فحسب، بل يمتد أيضًا إلى المجالات الاقتصادية. بعد توقيع اتفاقات التطبيع، بدأت الشركات الصهيونية في استثمار المزيد من الموارد في المنطقة، خاصة في مجالات الطاقة والمياه، التي تعدّ من القطاعات الحيوية في دول الساحل. تشارك الإمارات بدورها في هذه المبادرات الاقتصادية من خلال شركاتها الاستثمارية الكبرى، مما يعزز الروابط الاقتصادية بين هذه الدول.
ومع ذلك، هذه العلاقات الاقتصادية ليست خالية من التحديات. يرى بعض النقاد أن هذا التعاون من شأنه أن يؤدي إلى تزايد النفوذ الصهيوني في منطقة الساحل، مما قد يكون مصدر قلق للدول المناهضة للكيان مثل الجزائر وليبيا. لذا، فإن الاستثمارات الصهيونية في هذه الدول تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة الأهداف الإستراتيجية التي يسعى إليها الطرفان.