-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تعدُّدية بلا تنوّع خرّبها داء التوحُّد

حبيب راشدين
  • 966
  • 0
تعدُّدية بلا تنوّع خرّبها داء التوحُّد
ح.م

أكثر من ثلاثة عقود من التعددية الحزبية الناشئة عن دستور 89، أنتجت لنا تعددا قياسيا في الكيانات السياسية، دون أن يُهزَم فكرُ الحزب الواحد ويعالَج قبل تناسله من أعراض “التوحُّد” أو تنتج لنا نخبُها بديلا قابلا للحياة والتطور، لنظام حكم منغلق على الذات منذ النشأة، متخشِّب ممانع للإصلاح والتغيير، لا بالأدوات السلمية الناعمة، ولا بالقوة البهيمية، أو بشغب الشوارع، قد فرَّط مع الانتقال المبتذل للتعددية الحزبية في بعض مزايا النظام الاشتراكي المحمودة، وأفرط في استنساخ أسوأ ما في النظام الليبرالي الرأسمالي.

ما يقلقني اليوم، بعد مرور عام من الفوضى والقلاقل وإشهار “أسلحة التذمُّر الشعبي الشامل” كل يومي جمعة وثلاثاء، ليس بالضرورة ما يخوِّف به بعضُهم عامة الناس، بتبعات إصرار أهل الحَراك على “الحراك من أجل الحراك” من غير حساب عقلاني موضوعي للمردود من جهة، وتخويف نفس العامة بتداعيات إصرار النظام على إعادة تدوير “نفسه بنفسه لأجل نفسه”، فلست قلقا ابتداءً لا على الوحدة الوطنية: أرضا، ونسيجا اجتماعيا، ولا على السِّلم الاجتماعي، بقدر ما يخيفني ما أراه من إجماع منافق نافق حول الثوابت السياسية رغم التعدد وادِّعاء التفرد والتميز، وتوافق مضمر على “أصول دين التداول على الدولة” رغم ما تتراشق به “الظواهر الصوتية” وتنابز النخبُ فيها بعناوين دكاكينها في جعجعة مطاحن هواء لم نر لها طحينا ولو بمقدار ما يصلح لرغيف.

ولنبدأ بهذا الإجماع (الحميد في الظاهر) حول شعار “الدولة المدنية” في الخطاب الرسمي للسلطة القائمة، كما في الخطاب السائد في المشهد السياسي، وفيما يرفعه الحَراك كل جمعة، إجماع تلتقي عنده جميع العائلات الفكرية والسياسية: وطنية، إسلامية، علمانية يسارية، ليبرالية، اشتراكية، وكيانات فوق ـ قُطرية: (إخوانية، سلفية، تروتسكية، ومقلدين للمرجعية العليا للمحافظين الجدد من عوانس اليسار القديم) فلا شيء عند القوم يعلو فوق جلجلة صوت “الدولة المدنية” يحكمها هوس إجلاء العسكر نحو الثكنات، حتى لو كان الثمن تسليم السلطة بلا انتخاب لانكشارية من المدنيين، المتربِّصين خلف أسوار كيانات حزبية ورثت خلاياها الجذعية من حقبة حكم عسكر التسعينيات هي وطفيليات المتشابه من المجتمع المدني.

ولا شك أن القوم مجمعون على “الديمقراطية خيار لا رجعة فيه” في تدبير الشأن العام حتى لو اختلفوا في المصطلح، بين “الشورى ـ قراطية” المبتدَعة عند بعض الإسلاميين، و”ديموقراطية الأقلية” الكارهة للشورى، المحرَّمة على “أعداء الديمقراطية” من الإسلاميين بالتحديد بفرَمان دستوري يراد له أن يحدد مسبقا “شعب الله المختار” للحكم من صفوة السابقين بإحسان لاعتناق ملة الديمقراطية، كما هم مجمعون في السِّر والعلانية على وجوب العمل بـ”صحيحي” ريكاردو وآدم سميث، لمن أراد أن يجمل “دينه” بإتِّباع سنن الرأسمالية الليبرالية التي زعم بعضُهم أنها هي “نهاية التاريخ” التي غلقت على البشرية أبواب الاجتهاد، وقالت لكل جاب وصيرفي مراب “هيت لك”.

وكان يُفترض مع هذا التوافق والإجماع، أن نُستَفتى ولو مرة حول جدوى هذا التعدد السياسي الافتراضي، مع ثبوت الإجماع حول “دولة مدنية” تحكمها “انكشارية مدنية” و”تداول ديمقراطي” ولو بتفرد الأقلية، و”تعددية” بأعداد ليس لها عُدَّة ولا إعداد، و”رأسمالية” من مالي ومالك، ولو مع افتقارنا لرأس المال ولرجال الأعمال، وليبرالية مفتوحة للمقتدِر، يحرر فيها الذئاب من “شعب الله المختار” لافتراس من في الخمّ من “شعب الله المحتار” ثم نستفتى ـ بعد ثبوت البيان وجلاء الشبهة ـ في جدوى العودة بأمان لحكم الحزب الواحد، وسيطرة الفكر الموبوء بمرض “التوحد” يعاد تشكيله من “أعداد” هي بلا ريب مصابة بفقر التنوع، وبضمور آلة الاجتهاد، ومع هذه “الردة” نحو نظام الحكم الأوحد المتوحد “نرتد” بأمان إلى خيار الاشتراكية، كخيار لا يكفر “المرتدين” عنها حين تضيق بهم أرض الديمقراطية الغربية بما رحُبت، ويضيق خيالهم عن ابتكار وشقّ طريق ثالثة: لا شرقية من حيث يخشى خروج قرن الشيطان، ولا غربية تدَّعي طلوع الشمس من الغرب حتى قبل موعد اليوم الآخر.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!