تغيير النّفوس منطلق كلّ تحوّل
بمجيء ذي القرنيْن علموا أنّهم لا يعرفون أنفسهم. وفهموا أنّ نظرتهم للحياة تعوزها العزيمة على الرّشد. وأيقنوا أنّ تغيير ما بالنّفس لا يحتاج إلى مال وخراج وإنما يحتاج إلى رجال فكر وقادة رأي وأساطين علم وفقه وأُولي عزم.. فتغيير النّفوس هو منطلق كلّ تحوّل تلقاءَ قيّادة راشدة تجمع الكلمة وترصّ الصفّ وتعلّم الإنسان مبادئ التّعاون على دفع الشرّ بالتّضحيّة ووقف الضرّ باستشعار خطره واتّخاذ الأسباب المانعة من نبوّه واتّساع دوائره.
من المؤكّد أنّهم احتقروا أنفسهم وهم يرون هذا الإنجاز الضّخم الذي تمّ بما كان بين أيديهم من وسائل فأعادوا اكتشاف أنفسهم واكتشاف قدراتهم ومعرفة أسرار توجّسهم المفرط من عدوّهم ومبالغتهم في الخوف منه وعجزهم عن مواجهته واستسلامهم للأمر الواقع وإعلانهم أنهم غير قادرين على الحدّ من فساده في الأرض إلاّ بجعل ردم بينه وبينهم. وأنّى لهم ذلك.
فلمّا رأوا ذا القرنيْن تجمّعوا حوله وعاجلوه بالكشْف عن ثقافة الاستهلاك التي يعتقد أصحابها أنّ كلّ المشكلات تحلّها الثّروة ويستأجرها فائضُ المال، فالتمسوا منه أن يبنيّ لهم سدّا مقابل ما عندهم من مال: ((فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا)) (الكهف: 94)، بتعبير معاصر: قايضوه التّكنولوجيا بالمال!! أو الإنجاز بالثّروة.
انظرْ كم هو صغير وتافه حجم المعرفة لدى من لا يفقه قيمة الحياة. وكم هي متضّخمة ثروة من يعتقد أنّ الدّنيا مالٌ وثراء وخراج. وكم كانت كثيرة أعدادهم طويلة ألسنتهم كثيرا كلامهم ولكنّ الحصاد هشيم. وكم كان حجْم جهلهم بما يملكونه من ثروة أهملوها. ومن طاقة عطّلوها. ومن فرص أهدروها. ومن أوقات بدّدوها في الانتظار والتّمنّي بجهلهم وتخلّفهم وعجزهم عن بناء سدّ.. لأنهم لم يكونوا يفقهون شيئا من أسرار صناعة الحياة. وليس عندهم قدر كافٍ من عزائم الرّجال.
فلما كلّمهم ذو القرنيْن استبشروا بقدومه وأيقنوا أنّ هبة سَنيّة نزلت عليهم من السّماء، فتجمّعوا حوله يعرضون عليه خراجا من مالهم مقابل إقامة سدّ بينهم وبين عدوّهم جاهلين ما كان تحت أيديهم من ثروات متروكة همْلا فوق أرضهم. ثروات لم يكونوا يفقهون مقاصدها ولم يكن في وارد ما كانوا يخوضون فيه تحويلُ خامات الفكر والرّأي وسواعد الرّجال إلى إنجاز. لذلك كثر جدلهم وقلّ عملهم؛ فهم لا يعرفون قيمة أنفسهم. ويعرفون عدوّهم ولكنهم لا يعرفون ما يريدون وعمّا يبحثون.
فالجهل بقيمة العقل صارف عن إدراك حقيقته. وحاجز عمّا يمكن للإنسان فعله بثروة مكدّسة في عقولهم مخزّنة في سواعدهم مُلقاة فوق أرضهم. وقد وهبهم الله تضاريس طبيعيّة تسهّل عليهم إيصاد المنْفذ المفتوح بينهم وبين يأجوج ومأجوج. ولكنّهم كانوا يجهلون نعم الله عليهم. فطاقة العقل كانت معطّلة. ونعمة التّفكير متخلّفة أو مجمّدة. وإذا تكدّست النّعم الحسيّة صارت ترفا يعطّل الفكر ويشلّ السّاعد.. فيصير الإنسان غريزة لا تبتغي سوى الاستهلاك ولا تفقه شيئا من أسرار الحياة.