تقييم رأس المال العلمي والتكنولوجي للجزائر

يشكّل رأس المال العلمي والتكنولوجي عنصرا محوريا في قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة والتموقع الإستراتيجي داخل النظام الدولي وإنتاج القوة المعرفية، ولم يعد الأمر مقتصرا على البنية التحتية الأكاديمية أو عدد الباحثين فقط، بل على قدرة المنظومة العلمية على إنتاج معرفة متقدمة تتحول إلى أدوات فعّالة في الاقتصاد، والأمن، والخدمات العامة.
قدرات البحث العلمي في الجزائر
إنّ رأس المال العلمي والتكنولوجي يعدّ من أبرز الموارد التي تؤثر بشكل مباشر في قدرة الدول على تحقيق التنمية المستدامة، إذ يمثل مجموعة من المعارف والخبرات والمهارات والتقنيات التي يجري استثمارها وتوظيفها في ميادين البحث والتطوير والابتكار لتحسين الأداء الاقتصادي والاجتماعي، إذ يعدّ رأس المال العلمي والتكنولوجي عنصرا محوريا في بناء القوة المعرفية والاقتصادية الوطنية وتكريس السيادة التكنولوجية في مختلف المجالات الحيوية.
وقد سعت الجزائر منذ استقلالها إلى بناء قاعدة علمية وتكنولوجية معاصرة، ووفّرت العديد من الهياكل الأكاديمية والبحثية وأهّلت العنصر البشري، بغية تعزيز القدرات المعرفية في مختلف التخصّصات.
رأس المال العلمي والتكنولوجي الذي لم يكن ينظر إليه كأداة فاعلة في بناء القوة الاقتصادية والاجتماعية، بل كان يستغلّ بشكل محدود، إذ كانت الموارد المخصّصة للبحث العلمي أقل بكثير من المستوى المطلوب، كما كانت السياسات المعتمدة في هذا المجال تتسم بالارتجالية وعدم التنسيق بين مختلف المؤسسات الحكومية والأكاديمية، ومن ثمّ، كان هناك عجز واضح في تحويل نتائج الأبحاث إلى حلول عملية.
ومع ذلك، ورغم الجهود المبذولة على مدار السنوات، كانت الجزائر تُركز في العديد من مراحلها على الجوانب النظرية التقليدية، من دون تحويل المعرفة إلى تطبيقات عملية تساهم بشكل مباشر في تحسين الواقع الاقتصادي والاجتماعي، وهو التوجه الذي كان، إلى حد كبير، نتيجة للنموذج الاشتراكي الذي تبنّته البلاد خلال فترة ما بعد الاستقلال، إذ حوِّلت عملية إنتاج المعرفة إلى عملية جمعوية أو مجتمعية غير ربحية، وغير مدروسة ومن دون حاضنة تنفيذية، وهو التصور الذي ألقى بظلاله على مجالات البحث العلمي، بحيث لم يكن يحقق الفائدة العملية المرجوة منه، بل كان يقتصر على الأنشطة الأكاديمية التي تفتقر إلى التفاعل مع الاقتصاد الوطني، كما أن غياب القطاع الخاص أو بدائيته مقارنة بالتحولات العالمية، في المشهد العلمي والتكنولوجي في الجزائر، كان له تأثيرات عميقة في تقليص القدرة على استثمار وتوظيف البحث العلمي في تطوير الصناعات الإستراتيجية، وعدم وجود روح المبادرة الخاصة داخل القطاع العام والتنافسية بشكل حازم، وعدم وجود محفزات تُشجّع على الاستثمارات الخاصة في مجالات البحث والتطوير، كان أحد العوامل التي ساهمت في كبح الاستثمار العلمي الخلاق، ففي ظل غياب بيئة حاضنة للابتكار، تعذّر الاستفادة من الكثير من الأبحاث والابتكارات التي كانت تنتجها المؤسسات الأكاديمية.
إضافة إلى ذلك، غابت المخططات الإستراتيجية المعمقة التي تستند إلى رؤية شاملة لبناء “مشروع دولة مستدام، إذ كانت تلك المخططات تتطلب تحديد الأولويات في المجالات الحيوية التي تتعلق بالأمن القومي، مثل الصناعات الإستراتيجية والعسكرية، والابتكارات التكنولوجية المتقدمة في مجالات الصحة والفلاحة، وغيرها من القطاعات التي تُعدّ أساسية لضمان استقلالية الجزائر في مواجهة التحديات العالمية، كما أن هذه المجالات، التي تتطلب استثمارات ضخمة في البحث العلمي والتطوير، ظلت لفترات طويلة في هامش الاهتمام الحكومي، ما أثّر على قدرة الجزائر في مواجهة التحدّيات التكنولوجية والاقتصادية في العصر الحديث.
وتتمثل المشكلة الرئيسية هنا في أن رأس المال العلمي والتكنولوجي الذي لم يكن يُنظر إليه كأداة فاعلة في بناء القوة الاقتصادية والاجتماعية، بل كان يُستغلّ بشكل محدود، إذ كانت الموارد المخصّصة للبحث العلمي أقل بكثير من المستوى المطلوب، كما كانت السياسات المعتمدة في هذا المجال تتسم بالارتجالية وعدم التنسيق بين مختلف المؤسسات الحكومية والأكاديمية، ومن ثم، كان هناك عجز واضح في تحويل نتائج الأبحاث إلى حلول عملية تعود بالفائدة على القطاعات الحيوية، سواء في مجال الصناعة، أو الصحة، أو الفلاحة، أو الصناعات المتقدمة.
إزاء هذا الواقع، أصبح من الضروري أن يعاد النظر في استراتيجيات تطوير رأس المال العلمي والتكنولوجي في الجزائر، بما يضمن توجيه الموارد نحو تطوير مجالات علمية وتكنولوجية متقدّمة تواكب التحديات المعاصرة، وتحديد الفوارق الزمنية بين بحوثنا ومستويات العالم، وضبط أجندات تقدّمية للمنافسة في مجال البحث العلمي، مع تشجيع البحث الجاد والفعّال ومراجعة جدوى مراكز البحث الحالية وتقييم وجودها وأدائها.
كما ينبغي أن تقوم هذه الاستراتيجيات على أسس من التنسيق بين القطاع العامّ والخاص، مع التركيز على تعزيز الاستثمار في القطاعات الحيوية التي تتطلب استثمارات طويلة الأجل في البحث والتطوير، مثل تكنولوجيا المعلومات، والطاقات المتجددة، والذكاء الاصطناعي، فمن الضروري استحداث آليات مرنة تدعم البحوث الاستراتيجية في مجالات مثل الحواسيب الكمومية أو الحوسبة الكمومية، وهي تقنية رصد لها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب استثمارا قدره مليار دولار في عام 2018، ومن شأن هذا الاستثمار أن يعزّز تقدّم الأبحاث في هذا المجال الحيوي، الذي يتوقع أن يكون له تأثير كبير في عدة مجالات إستراتيجية، من بينها الأمن السيبراني، والذكاء الاصطناعي، والطب، والعديد من الصناعات المتقدمة.
وفي إطار هذا السياق، يجب العمل على إنشاء بيئة قانونية وتنظيمية محفّزة تشجع القطاع الخاص على المشاركة الفاعلة في مشاريع البحث العلمي والتطوير، وذلك عبر تسهيل الشراكات بين المؤسسات الأكاديمية والصناعية وتجسيدها بشكل متسارع وفعّال، وتوفير حوافز مالية وتشريعية لتشجيع الاستثمار في الابتكار التكنولوجي.
كما أنّ الاستثمار في رأس المال العلمي والتكنولوجي يجب أن يكون جزءا من خطة شاملة من النموذج الاقتصادي الكلي الجاذب لتطوير اقتصاد المعرفة والصناعات المتقدمة، بحيث تستهدف بناء القدرة التنافسية للجزائر على الصعيدين الإقليمي والدولي، ولتحقيق هذا، يجب أن تُبنى إستراتيجية وطنية تعتمد على تحديد الأولويات الوطنية في القطاعات الحيوية، وربط مخرجات البحث العلمي بالتحديات الوطنية الكبرى، بما في ذلك الأمن القومي (الاقتصادي والأمني والتكنولوجي الغذائي …)، والاقتصاد المستدام، والسياسات الفلاحية، الصحية والاجتماعية.