-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

تمخّض ستورا فوَلَد الحرْكى!

تمخّض ستورا فوَلَد الحرْكى!
ح.م

ما جاء في ورقة بنيامين ستورا من مقترحات باهتة لمصالحة الذاكرة مع فرنسا، لم يكن أبدا موقفًا مفاجئًا للعارفين بمكر الفرنسيين، ولا الخبراء بشروط التفاوض بين الدول، باعتباره قائمًا على توازن المصالح وأوراق الضغط لدى كل طرف.

لكن أن يصل الأمر بمفوّض إيمانويل ماكرون إلى عرض أفكار استفزازيّة على الجزائريين، مع عِلْمهما أنها مرفوضة جملة وتفصيلا، وفي مقدمتها فتح ملف الحركى، فهذا يثبت فعلاً أن ساكن الإليزي لم يكن جديرا بثقة الجزائر التي عبّر عنها الرئيس عبد المجيد تبون، وهو ما يفرض إعادة تقييم الوضع واستشراف الآفاق بشأن رغبة بلادنا في بناء علاقات جديدة ترتكز على “تسوية قضيّة الذاكرة”.

وبغضِّ النظر عن المطالب الرسمية المكبَّلة بحواجز الواقعية الدبلوماسيّة، فقد وردت تصورات ستورا بعيدة تمامًا عن تطلعات الشعب الجزائري، إذ جاءت خالية من الاستعداد للاعتراف بجرائم الدولة الفرنسيّة في حق الإنسان، ناهيك عن تخيّل تقبّل فكرة الاعتذار الإجباري أو التعويض المشروع عن الدمار الحضاري والمادي الذي سبّبه الاحتلال الاستيطاني البغيض طيلة 132 سنة، دون الحديث عن النهب والاستغلال الذي طال كل شيء فوق هذه الأرض.

بل الأسوأ أنّ ورقة ستورا – ماكرون، ومن خلال اقتراح إعطاء مكانة أوسع لتاريخ فرنسا في المناهج الدراسية، تتشبّث ضمنيّا بالدعاوى الزائفة للخلفيات الحضارية للاستعمار، والذي جاء إلى المنطقة حاملاً لواء المدنيّة الغربية لإنقاذ سكان إفريقيا من البداوة البربرية، فإذا به يطمس في الجزائر كل معالم هُويّتها من مساجد ومدارس وعُمران.

أكثر من ذلك، تعمّدت فرنسا، مدّعية التمدين، حرمان الجزائريين من التعليم الأبجدي البسيط، بمقتضى قانون الأهالي العنصري، مقابل ذلك، سعت لفرض التنصير والفرنسة لإلحاقهم عنوة بالضفة الأخرى، لكنها فشلت برغم الألغام الثقافية واللغوية التي غرستها وسط النخبة، ولم تخرج جيوشها مذلولة مدحورة إلا بعد أن تركت شعبًا تنخره الأمية بمعدل 95 في المئة، بينما لم تكن تتجاوز 14 بالمئة عند دخولها في 1830.

أمّا ما يروَّج على أنه من “إيجابيات” الإستدمار الغاشم، والتي تجد صداها عند مستلبي الهوية والجاهلين بحقائق التاريخ من بني جلدتنا، فهو الزعم بأن فرنسا شيدت المباني والعمارات، وبنت الجامعات والمستشفيات، وشقت الطرقات وفتحت الموانئ والمطارات وسواها من منجزات عمرانيّة كثيرة، لكن السؤال المغيَّب قسرا هو الآتي: هل فعلت فرنسا كل ذلك لخدمة الجزائريين الذين أحرقتهم، في قرى كثيرة من ربوع الوطن، عن بكرة أبيهم، ومنعت عنهم دور العبادة والتعلّم وسلبت أراضيهم وسامتهم سوء العذاب؟

إنّ كل ما أنجزه الاستعمار كان ضمن خطة الاستيطان نفسها وتأبيد الاحتلال، من أجل دعم الاقتصاد والحكم الفرنسيّيْن، وفي الداخل كان موجَّهًا أساسا لصالح الفرنسيين والمعمِّرين و”العائلات الوظيفيّة” من الحركى، إلا في السنوات الأخيرة للاحتلال ضمن تكييف ممنهج لاستقطاب السكان.

ودون الدخول في تفاصيل مقترحات ستورا، فإنّ ما تمخّض عنها من عرض هزيلٍ، يؤكد مرة أخرى أن الوقت لم يحن بعدُ لإقدام باريس على الخطوة اللازمة، وكلما أبْدت تقدمًا نحو الأمام، سرعان ما تعود أدراجها نحو الخلف، لاسترضاء اليمين المتطرف وجماعات الضغط الفرنسية، خاصة في السياقات الانتخابية، مثلما هو عليه الحال اليوم مع ماكرون الطامح لولاية رئاسية ثانية، يستوي في ذلك جميع المتعاقبين على الإليزي بمختلف مشاربهم الإيديولوجية، إذ القاعدة موحَّدة عندهم بشعار “لا يعتذر الأبناء عن جرم الآباء”، بينما يؤكد القانون الدستوري، وهم من بُناته، استمراريّة الدولة في ظلّ تداول الحكام.

إنّ ما يجب أن يدركه الجزائريون الآن هو أن “معركة الذاكرة” تشكّل امتدادًا لحرب التحرير، ومثلما لم يكن بالأمس استرجاع السيادة الوطنية منحة فرنسيّة سخيّة، بل جاء تتويجًا لنصر أسطوريّ باهظ الثمن، فإنّ الاعتراف والاعتذار والتعويض لا يمكن أن يكون اليوم محلّ استجداء من المستعمِر البغيض، بل سيأتي استحقاقًا جديرًا بالنيل في موعده التاريخي المرتقب.

على الجزائريين أن يستكملوا طموحهم في بناء دولة قويّة، بشرعيّة مؤسّساتها وتقدُّم تعليمها واقتصادها، تقف الندّ للندّ مع خصومها وأعدائها، تُقرّر قِبلتها الدوليّة في الشراكة الأجنبيّة بكل سيادة، وتحصّن قرارها الوطني من كل مساومة وابتزاز.

يوم نصل بالجزائر إلى مصاف الدول التي حلم بها الشهداء الميامين، ستخرّ لها جبابرة فرنسا صاغرةً، إذ سيصبح حينها نكران جرائم التاريخ موقفا مكلِّفا في منطق الغرب المادي، وليس سوى مكابرة انتخابية مُربحة.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!