تنبيه الغافلين وتنبيه المغترين
من الآثار العلمية التي تركها الأمير المجاهد عبد القادر بن محيي الدين كتاب سمّاه: “ذكرى العاقل وتنبيه الغافل”. وما كتب هذا الأمير المجاهد كتابه إلا بعد ما أَدَّى واجبه في الجهاد كأحسن ما يكون الأداء؛ إذ جاهد سبعة عشر عاما رأى خلالها من الأهوال ما يشيب الأطفال، وقد شهد على رجولته وبطولته حتى ألدُّ أعدائه وهم الفرنسيون الفقراء من القيم الرجولية، والأخلاق العسكرية، فعملوا على “سرقته”، إذ أدرجه الجنرال بول آزان، رئيس قسم التاريخ في الجيش الفرنسي في ثلاثينيات القرن العشرين؛ أدرجه في كتابه المسمّى les grands soldats de l’Algérie، ويقصد أولئك الضباط المجرمين من أمثال بيجو، وكافينياك، وروفيغو، وسانت آرنو، وبيليسيي الذين لم يسجلوا مجدا عسكريا في الجزائر، ولا سطروا موقفا رجوليا، وما سجلوا إلا إرهابا رسميا.. وأما العسكرية الشريفة، والجندية النبيلة فلم يسمعوا عنها فضلا عن أن يمارسوها، وما جسّدها إلا هذا الشاب المجاهد الذي ليست له تجربة في قيادة الحروب، ولم يتخرّج في مدرسة عسكرية، ولا مارس تسيير الدولة، ومع ذلك فقد أرهق بعبقريته وإرادته الجيش الفرنسي المسمّى في القرن التاسع عشر: “الجيش الأعظم”.
وأما “تنبيه المغترين” فهو كتاب لعالم جزائري عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والعشر الأول من القرن العشرين وتوفاه الله -عزّ وجل- بقسنطينة في سنة 1910.
لم ينل هذا العالم، خريج الأزهر الشريف، ما يستحقه من اهتمام، ولم تتداوله ألسنة المتحدثين، ولم تتناوله أقلام الكاتبين، وما نال إلا جملة قصيرة في أحد كتب الأستاذ مالك ابن نبي، إذ اعتبره أوّل صيحة ارتفعت بالإصلاح في قسنطينة وما حولها، وكتاب صغير ألّفه عنه الأستاذ سليمان الصيد رحمه الله.
كانت هذه الصيحة التي أشار إليها الأستاذ ابن نبي هي التي أزعجت النائمين والغافلين والمُغَفَّلِين الذين كانوا يشيعون ثقافة “كول القوت واستنّ الموت” فصيّروا الإنسان الجزائري كالدواب، يأكل أدنى الأطعمة، ويلبس أحقر الألبسة، ويسكن أوهن البيوت وأَرْدَأُهَا، “مؤمنا” أن خيرات بلاده هي من نصيب من “فرضه” الله -عزّ وجل- علينا، وهو “الاستعمار” الفرنسي، ذلك أن “علماء” علّموه أن “الدنيا لهم – أي للنصارى- والآخرة لنا”، وأعماهم الشيطان عن قوله تعالى: “وَإِنّ لنا للآخرة والأولى”، ولذلك مُسَّ الشيخ ابن مهنا بنُصْب وعذاب من الطغاة الفرنسيين بتحريش من “علماء” جزائريين.
ظننا أن ما مر على الأمة الإسلامية من محن ومصائب وإهانات طيلة القرنين الأخيرين قد نبهها من الغفلة، وأبرأنا من داء الاغترار، ولكن حالنا تنبِّئ بأننا ازددنا غفلة، واستفحل فينا داء الاغترار، إذ استمرأنا تغفيل أعدائنا لنا، واستفحل داء الاغترار فيمن استخلفهم الله في المال، فراحوا يسابقون الشياطين في التبذير، ناسين أن في ذلك المال حقوقا للأمة فيه. فمتى ننتبه من غفلتنا ونُشفى من اغترارنا، وصدق الشاعر القائل:
إذا لم يكن للمرء عين صحيحة
فلا غرو أن يرتاب والصبح مسفر
المؤامرات ضد أمتنا لا تعدّ ولا تحصى، والمخططات لا تستقصى، وأكثرنا بمن فينا الحكام والأغنياء والعلماء نخوض في التفاهات ونتمرغ في الشهوات، ونساعد أعداءنا في ضرب بعضنا بعضا.