تهاوي الأطروحة الاستعمارية ونهاية عصر الميركافا
أثبتت حقائق التاريخ، أن الظاهرة الاستعمارية حالة مرضية معقّدة ومركّبة ومستعصية ومربكة ومتشابكة الأبعاد والامتدادات. ومن الصعوبة بمكان تفكيكها ومحاصرتها بله القضاء عليها نهائيا، لأنها ظاهرة منافية للطبيعة البشرية، ولأن سائر مكوناتها رفيعة الطراز في عالم استذلال واستعباد الآخرين، ولكونها تتحكم فيها جملة من الآليات المتطورة والمتلونة والمخادعة.. ما يُمكنها من التفلت والتملص والتلون، ومن الصعوبة أيضا القضاء عليها وإفناؤها من عالم الوجود الحضاري البشري.
ويمكننا من خلال هذه الوقفة التدبّرية لطبيعة هذه الظاهرة المخالفة لسنن الوجود والبقاء أن نرسم معالم تهاويها بعد مرورها بمرحلة النشأة والنمو والتوسع والسيطرة والهيمنة المطلقة خلال قرون الاستعمار الصاعدة 1492-1962م، وانسيابها نحو مظاهر وممارسات جديدة بعد موجة الثورات التحررية التي شهدها العالم مطلع خمسينيات القرن العشرين، وارتدائها لأزياء الثقافة والفنون والآداب والقيم والمؤسسات والمحافل الدولية والخضوع لسلطان القوانين الدولية والأممية العالمية سنوات 1962.. 2024م.
وهي في ظني واعتقادي ظاهرة توشك على الأفول والقفول والرحيل من قواميس الشعوب المستعمرة، وتؤذن بالغياب بعد ظلمة وقهر دام أكثر من ثلاثة قرون من الاستعباد والاستعمار والقهر والإذلال.. وتبين لنا بعد بركان “طوفان الأقصى” يوم 07/10/2023م أن نخبة متميزة مؤمنة بقضاياها المصيرية قادرة على أن تدحرها ببساطة في ميدان التدافع والصراع الحضاري الذي شهدته المنطقة.
ومع أني لست خبيرا عسكريا ولا إستراتيجيا متخصصا في العلوم العسكرية والسياسية، لأقدِّم قراءة وافية ومقنعة عن دقائق وخصائص العلوم العسكرية والسياسية، إلا أني أحمل تجربة ثرية نتجت من قراءة معمّقة لعشرات الكتب والمؤلفات في الحروب والمعارك ومذكرات القادة وجنرالات الحرب المشهورين في تاريخ الحروب في العالم.. فقد قرأت مذكّرات (رومل ثعلب الصحراء) وحرب العلمين 1942- 1943م ومذكِّرات الجنرال (مونتنغومري) الإنجليزي الذي طرد الألمان من مصر وليبيا وتونس. ومذكّرات الجنرال (إيزنهاور) بطل وقائد قوات الحلفاء في نهاية الحرب العالمية الثانية 1944-1945م و(ماك آرثر) بطل الحرب الكورية 1950-1953م ومذكرات (هتلر كفاحي) و(النازية تتحدّى العالم) ومذكرات الجنرال (شارل ديغول) 1943-1962م ومذكرات (جوزيف ستالين) 1922-1953م.. فضلا عن غيرها من المجلدات التي تناولت الحربين العالمية الأولى والثانية لريمون كارتيي وسماحة مسعود ومحمد الديراني المزوَّدة بالصور الملوَّنة.. وغيرهم روايات وسرديات تجارة الرقيق خلال قرون السطوة والسيطرة والاستعباد الاستعماري الصليبي الأوربي للعالم 16-19م كرواية جذور لـ(ألكس هالي) قبل أن تمثَّل تلفزيونيا، يُضاف إليها المذكرات التي تناولت حرب الأيام الستة حزيران جوان 1967م وحرب رمضان 1397هـ أكتوبر 1973م كمذكرات الجنرال (سعد الدين الشاذلي) و(محمد الجمسي)..وتكوّنت لديّ رؤية سياسية وعسكرية لمجريات الحروب، فضلا عن مطالعاتي لصعود وازدهار الظاهرة الاستعمارية خلال القرون الاستعمارية الثلاثة الأخيرة 17-20م، رافقها تحليلاتٌ عميقة لبواعث ودوافع وخصائص الظاهرة الاستعمارية التوسّعية الجشعة، ككتابات الصليبيين أنفسهم أمثال (جيفري برون المدنية الأوربية 1815-1914م) وكتابات مالك بن نبي في تحليل الظاهرة الاستعمارية ومشتقاتها المصطلحية والصراع الفكري في البلاد المستعمرة وبين التيه والرشاد وآفاق جزائرية وشروط النهضة.. وآليات الغرب المعادي في استشعار النهضات والحركات التطلعية والتحررية في العالم المستعمر.. التي طوَّرت آلياتها التقليدية منتقلة نحو الأساليب الجديدة القانونية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والدينية والفكرية، وعودتها الأخيرة لاستعادة أدبياتها الاستعمارية التقليدية بعد انكشاف حيل وألاعيب وتعميات ما يسمى المؤسسات الدولية وهيئة الأمم المتحدة واحترام القانون الدولي والالتجاء لمحكمة العدل الدولية بلاهاي.. وغيرها من ألاعيب وأساليب الغرب اليهودي الاستعماري المخادع.
وبعد هذه المقدمة التأهيلية الواجب التذكير بها لعموم الكتّاب والقرّاء، وقبل أن أذهب لبسط معالم الموضوع الكبرى، أود أن أنقل فقرة من كتاب (جيفري برون المدنية الغربية 1815-1914م ص 52.. 54 بتصرف طفيف)، إذ جاء قوله: ((.. أما خارج القارة الأوروبية فقد كان التوسّع المستمر للولايات المتحدة الأمريكية هو أضخم تطور بالنسبة للشعوب الأوربية في تلك العصور، ففي الفترة الممتدة بين عامي 1830-1850م تضاعف عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية.. إلاّ أن الأغرب من ذلك هو اتساع مساحتها بشكل مذهل؛ فقد تضاعفت هذه المساحة إلى ملايين الكيلومترات المربعة نتيجة الضم المفاجئ لتكساس وللحرب التي قامت مع المكسيك، وفي سنة 1846م خاضت حربا مع المكسيك وهزمتها ووقَّعت معها معاهدة ومع بريطانيا وإسبانيا، وقد ضمّت بموجبها نيومكسيكو وأريزونا ولويزيانا وكاليفورنيا وفلوريدا والأوريجون وزادت مساحتها بشراء ألاسكا من روسيا القيصرية..ما جعل المفكر والفيلسوف الشهير (ألكسي دو توكفيل) يقول: “كم كنت معجبا بالأمريكيين ولكن ما كان يفزعني ويزعجني منهم هو فظاظتهم وجشعهم اللامتناهي”.. ))، أليست هذه حقيقتهم إلى اليوم؟
إننا لا يمكننا فهم وتفكيك الظاهرة الاستعمارية على حدّ رأي المفكر الفلسطيني (إدوارد سعيد) إلا بفهم طبيعة ونوعية ومقومات وبنية الفرد الغربي (المسيحي المتوحّش المغامر واليهودي الخبيث الماكر)، وعلى حد تحليل (هنري غاروت، أصول يهود الجزائر، 1898م) عندما نعت يهود الجزائر بأنهم أشبه بشخصية التاجر اليهودي الجشع جدا (شايلوك) في مسرحية (شكسبير) تاجر البندقية.. الذين أحكموا بمكرهم وتآمرهم الكيدي الذي يمهِّد للصليبي الجشع والمغامر كي ينجح في تحقيق أهدافهم تحت مظلة أهدافه بسرعة مذهلة تُعيي وتُرعب كل الدارسين والمحللين. إلى اليوم، فالجزائر لم تسقط سنة 1830م، بل سقطت سنة 1805م عندما أحكم يهود الجزائر سيطرتهم على الداي مصطفى، وظلوا يفسدون ويخربون إلى أن نخر السوس جسد الدولة الجزائرية، ومازالوا للأسف الشديد يواصلون هذه المهمة باقتدار وصمت ما أدى إلى تضعضع المجتمع والدولة الجزائرية، فهم أس البلاء فيها إلى اليوم.
اكتشاف قوة البخار والظاهرة الاستعمارية
ومن خلال رؤيتنا وتحليلنا لسيل المعلومات والتقارير والتحليلات والقراءات الواردة في سياق تفكيك الظاهرة الاستعمارية (دولة الكيان الصهيوني أنموذجا) بعد السابع من أكتوبر 2023م، نتبين أن عملية تفكيك الظاهرة انطلقت بمنجز حضاري فاق مقومات تماسك هذه الظاهرة العجوز تمثل في: (1- عقل مسلم ناهض ومتطور، 2- نفس مسلمة مخلصة تواقة للجهاد، 3- قنبلة الياسين 105 ورفيقاتها، 4- استراتيجية جديدة ومفاجئة).
وحسب ما قدّمته حقائق التاريخ، فقد روت لنا كتب التاريخ الحربي والعسكري أن اكتشاف وتطوير القوى الاستعمارية لاستراتيجياتها القتالية ولمقومات صناعتها الحربية ولقوة البخار واستعمالها في دفع الأساطيل الغازية نحو اجتياح واحتلال البلاد والشعوب المستعمَرة، عمل بشكل أو بآخر على تجاوز ما تختزله القوى الأخرى من قوة وقيم كالشجاعة ورباطة الجأش والتضحية والاستماتة والاندفاع والتمسُّك بالأرض والدفاع عن النفس والعرض.. فقد هُزم الجيش الإنكشاري أمام الغزو الفرنسي سنة 1798م بقيادة (نابليون بونابرت ت 1821م) لمصر في بضع ساعات، وسقطت القاهرة تحت ضربات الجيش الفرنسي الذي لم يكن يملك من الخيول إلا النزر القليل، كما يروي الجبرتي في كتابه (عجائب الآثار من التراجم والأخبار).
شكّلت الدبابة عنصر مفاجأة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وظلّت كذلك والعالم الغربي يطوّر الدبابة كآلية تحمي الجنود.. حتى جاءت قذيفة الياسين 105 وأخواتها غير المكلِّفة ماليا.. فأخرجت هذه الأسطورة من أدبيات الحروب.. وأنهت عصر الدبابة للأبد من الحروب.. وستتحول دبابة “الميركافا”، بفضل الله وسواعد الفتية المؤمنين، كفخر للعقل المسيحي اليهودي نحو المتاحف الحربية كشاهدة على قرن من الحروب والصراعات 1917-2024م الدامية، وستبقى أحد شواهد التاريخ على آلية القمع والتخويف الاستعمارية.
وسقطت نظرية الحروب الصليبية التي تقول إن أي جيش يملك العدد الأكبر من الخيول هو بالضرورة المنتصر، لأنه سيطأ بسنابك خيله الجيش المعادي، وكما حدّث إبراهيم بك أخاه مراد بك من خلال مراقبتهم لجيش نابليون الغازي من نافذة قلعة محمد علي باشا، ظانا أنه بسنابك خيله الثلاثين ألفا سيهزم جيش نابليون.. وما حصل كان العكس.. وهكذا هُزم الجيش الجزائري بعد ثلاثين سنة والعثماني في نفارين أمام الأساطيل والجيوش الاستعمارية.. وهكذا تتحطم اليوم دبابة الميركافا فخرُ الصناعة والعقل اليهودي والمسيحي أمام منجزات وعصارة العقل العربي المسلم بتكاليف أقلّ وأبسط.. وهو ما غاظ الغرب وقهره وأذلّه.. مما جعله يندفع لمناصرة الظاهرة الاستعمارية اليهودية الجاثمة على قلب وصدر بلاد العروبة والإسلام فلسطين.
دور الدبابة والطائرة في الحرب العالمية الأولى
ظلت الحروب تتكئ على نسق استراتيجيات جيوش الإمبراطوريات الاستعمارية الكبرى (بروسيا، النمسا، روسيا، فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، البرتغال، الدولة العثمانية، اليابان)، وخاضوا الحرب العالمية الأولى سنوات 1914-1918م على نسق وبنية العقل الحربي الموروث، حتى دخلت الدبابة الحرب على الجبهة الفرنسية لدحر ألمانيا زعيمة دول المحور.. وشكّلت الطائرة المقاتلة أيضا نهاية الحرب عنصر مفاجأة لجيوش المحور بقيادة ألمانيا، كما عمل إدخال الدبابة البطيئة جدا يومها عمله كحصن منيع لحماية الجنود، ولم تعد الحرب مجرد تمهيد مدفعي فقط ثم هجوم للجنود على الأعداء ومباغتتهم في خنادقهم فقط، بل شكّلت الدبابة عنصر مفاجأة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وظلت كذلك والعالم الغربي يطوّر الدبابة كآلية تحمي الجنود.. حتى جاءت قذيفة “الياسين 105” وأخواتها غير المكلِّفة ماليا.. فأخرجت هذه الأسطورة من أدبيات الحروب.. وأنهت عصر الدبابة للأبد من الحروب.. وستتحول دبابة “الميركافا”، بفضل الله وسواعد الفتية المؤمنين، كفخر للعقل المسيحي اليهودي نحو المتاحف الحربية كشاهدة على قرن من الحروب والصراعات 1917-2024م الدامية، وستبقى أحد شواهد التاريخ على آلية القمع والتخويف الاستعمارية. وقد تبقى الطائرة تؤدي مهمتها في تأليه وتجبر الظاهرة الاستعمارية فترة ما، وهي بدورها ستجد عقلا يحيدها عن التخويف يوما ما وعن نشر ونقل الدمار من السماء إلى الأرض.
السلاح الكيميائي في الحرب العالمية الأولى
ردّ الألمان على دخول الدبابة والطائرة باستعمال المواد الكيميائية والغازات السامة واختراع الأقنعة المضادة للغاز السام، وحُيِّد هذا السلاح لخطورته على المتقاتلين، وتبعه اختراع القنبلة الذرية وسياسة توازن الرعب وتساوي الردع، ما حدَّ من قيمة السلاح النووي في ميزان الرعب.
والسؤال المطروح الآن: ماذا يريد العقل الاستعماري وراء هذا كله؟ وهل اقتنع أن القتل والدماء والتهديم والتخريب سيبقى سبيلا وحيدا لبقائه قويا وسيِّدا على شعوب العالم؟ أعتقد لا.. والفضل كله للسواعد التي حطّمت أسطورة دبابة “المريكافا” التي نفختها آلة الدعاية الصهيوأمريكية.
والسلام عليكم يا أحرارنا الأبطال.. والسلام عليك يا شيخنا أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ويحيى عياش وصالح العاروري وسائر قافلة الإسلام في جنات الخلود.. وما النصر إلاّ من عند الله، العزيز الحكيم.. وإلى مزبلة التاريخ دبابة “الميركافا”.