توجة .. شهود المأساة يتحدثون
انطفأت جمرات النيران التي أتت على الأخضر واليابس بعدة قرى ببلدية توجة في بجاية، وتباين حجم الخسائر بين آث أوصالح ووادي الداس، ثيغرمث وقرى أخرى، التي خمدت فيها الحرائق بعد أن أشعلت جمرات الأسى، التي ستدوم في قلوب ونفوس ساكني وقاطني هذه القرى القابعة على المرتفعات وسط غطاء نباتي كثيف، ممن فقدوا أحبة سيبقى صدى أصواتهم يتردّد بين جدران المنازل المنكوبة.
رافقت “الشروق” قافلة إغاثة انطلقت من تيزي وزو حملت مساعدات إلى منطقة توجة التي نكبتها الحرائق، فكانت المشاهد محزنة، فالسواد غطى الأرض وروائح الدخان ما زالت في الأرجاء، وهذا على امتداد كيلومترات قبل بلوغ هدفنا. كان الطريق طويلا من معاتقة إلى غاية توجة، لكنه لم يثن طاقم القافلة، التي استهدفت القرى المتضررة، لاسيما وادي الداس وآث أوصالح، وهي الأكثر تضررا من بين قرى المنطقة الـ23، التي تشكّل دوار أبراراس، الواقع على بُعد 25 كلم من مركز بلدية توجة.
كانت المركبات تسير بسرعة، لأن الجميع كان يستعجل الوصول، ولم تشغلهم المناظر الخلابة للشواطئ، فالمنطقة بعد أن كانت محجا للسواح، باتت مقصدا للمتضامنين مع ضحايا الحرائق، التي دمّرت المحيط ويحتاج الأمر إلى سنوات طويلة، كي تستعيد المنطقة وجهها، وتطوي صفحة الخراب.
دخلنا ولاية بجاية وكانت وجهتنا بلدية توجة، وبالتحديد وادي الداس وآث أوصالح، التي كان أهلها بانتظارنا كونهم يعرفون بقدومنا، وما إن بدأت مشارف هذه القرى تبدو لنا من بعيد، حتى بدأت رائحة الرماد تصل إلينا عبر نسمات الهواء وهبوب الرياح، وصور الدمار والخراب تلوح في الأفق، حيث تحولت الأشجار إلى مجرد جذوع سوداء تعرت من أوراقها، في حين اكتست بعض الأشجار اللونين الأصفر والبني القاتم، حيث أبقت النيران على شكلها ولكن غيّرت لونها، مساحات كبيرة من الأراضي فقدت غطاءها النباتي، منازل كساها السواد وأخرى دمّرت بسبب قوة الرياح وهول تلك الحرائق التي لم يسبق لأي أي أحد أن شاهدها أو عاش رعبها، سيارات احترقت وبقيت فقط هياكلها الخارجية، مظاهر الحزن والأسى تبدو جليا على وجوه المتضررين، رغم الابتسامات المحتشمة، التي سرعان ما تختفي تاركة المجال للدموع، فالجميع يتقاسمون الأوجاع نفسها وهم يبكون أحبة وأقارب، وإخوة من أبناء الجيش الوطني الشعبي الباسل، استشهدوا وهم يكافحون النيران ذودا عن المواطنين.
تعتبر وادي الداس من المناطق الخلابة التي تستقطب سنويا آلاف السياح من مختلف ولايات الوطن، وحتى خارجه، حيث يقصدها الباحثون عن الراحة والاستجمام، وقضاء أجمل الأوقات رفقة العائلة والأصحاب على شاطئها الذي يتميز بعدة مقومات، من مناظر خلاّبة وصفاء المياه، والنظافة، ناهيك عن اهتمام المسؤولين بها والذين يتخذون كافة التدابير والإجراءات لإنجاح موسم الاصطياف في هذه المنطقة وخلق ديناميكة سياحية، خاصة مع تدعيمها بعدة خدمات كمطعم ومقهى ومحل تجاري يتواجد على قارعة الطريق، لتكون فضاء راحة لمستعملي الطريق، لكن النار أتت على كل شيء وحولّتها إلى رماد.
كتلة من اللهب
يروي مالك الفضاء التجاري “أمسبريد وادي الداس”، أنه في اليوم الذي اندلعت فيه الحرائق، كانت الحرارة مرتفعة والرياح قوية، الكهرباء كانت تنقطع لزيادة الحاجة لاستعمالها في موسم الاصطياف وتوافد السياح إلى المنطقة، الأمر الذي دفع به لاقتناء جهاز لتوليد الكهرباء حرصا منه لتقديم خدمات جيدة، مشيرا إلى أنه ورفاقه خلدوا إلى النوم بعد يوم عمل شاق، وفي حدود الثالثة صباحا، خرج من غرفته لتفقد جهاز توليد الكهرباء، ليتفاجأ بكتلة من النار تتجه نحو المكان الذي حاصرته الحرائق من كل الجهات، الأمر الذي دفع به إلى إيقاظ جميع من هم متواجدون في المكان وضمنهم عائلات من العاصمة، وبدأوا بإدخالهم داخل غرفة التبريد لإنقاذ حياتهم، إلا أن أحد العاملين، الذي عكف على إنقاذ العائلات، لم يتمكّن من إنقاذ نفسه حيث لحقت به ألسنة اللهب وهو يهم بالإختباء داخل ثلاجة.
وتعالت أصوات النجدة، وصار الجميع يسارع إلى شاطئ البحر هربا من الموت، وهم يرددون عبارات من قبيل “هل سنموت؟”، “لن نموت.. أليس كذلك؟”. مضت الحرائق لكنها بقيت حاضرة في يوميات السكان الذين ما تزال آثار الرعب والخوف بادية على وجوههم، وهم يأنسون إلى الزائرين الذين يأتونهم من مختلف ولايات الوطن لتقديم الدعم لهم.
عبد الحق، طفل يبلغ من العمر 12 سنة، ما يزال يتذكر كل التفاصيل ويرفض النوم، حيث يقضي الليالي ساهرا وفاتحا عينه منذ ذلك اليوم، من هول ما عاشه وصور الجثث التي كانت أمامه، وهي لأشخاص حاول بعض المواطنين إنقاذهم بسكب الماء عليهم، ولكنهم فارقوا الحياة متأثرين بإصاباتهم البليغة.
حاولنا جاهدين الحديث مع هذا الطفل، الذي اكتفى، في البداية، بالإبتعاد عنّا راسما ابتسامة محتشمة، ولكن مع مرور الوقت، وافق على الإقتراب منّا والحديث معنا وحتى الضحك بعد أن اطمأن وزال عن نفسه بعض الخوف، خاصة وأننا وعدناه بالعودة ومرافقته إلى شاطئ البحر وقضاء اليوم معه، لترتسم تقاسيم الفرحة على وجهه، والابتسامة التي غابت عنه منذ تلك الكارثة، وهو الأمر الذي أكده لنا والده، الذي صرح أن ابنه لم يعد ينام في الليل ولم يضحك منذ مدة بسبب تعرضه لصدمة نفسية ومشاهدته لجثث المتوفين، “حيث لم يكن بوسعنا تفادي ذلك وإبعادهم عن المكان”، وهو ما لاحظناه بالضبط، حيث يجتمع الجميع في ذلك المكان يوميا مترقبين القوافل التضامنية ليس لتقديم المساعدات فقط، وإنما لإيجاد أشخاص يتحدثون معهم ويأنسون بوجودهم لينسوا بعض ألمهم وخوفهم، حيث أنهم، إلى غاية الآن، لم يستيقظوا من هول الصدمة ولا يريدون تذكر تلك اللحظات المرعبة التي عاشوها في دقائق كانت كفيلة بأن تغيّر معالم هذه المنطقة التي يقابلك السواد والرماد فيها أين ما وجهت بصرك.
غادرنا وادي الداس باتجاه قرية آث أوصالح، بعدما قضينا بعض الوقت رفقة سكانها المتضررين الذين يحتاجون مزيدا من الدعم، وهو ما تعكف عليه السطات التي لم تقصر قي هذا المجال، ومن ذلك، قرارها صرف تعويضات للمتضررين، وإطلاق خطط لمحو آثار الكارثة.
شهود يروون المأساة
توجهنا إلى قرية آث أوصالح التي وصلنا إليها بعد السير لكيلومترات عبر الطرقات والأزقة الضيقة، وسط الغابات التي لم يبق فيها سوى آثار وأغصان الأشجار المحترقة التي تقابلك أينما اتجهت ببصرك، فلا وجود للطبيعة الخضراء التي اعتاد مستعملو الطرقات رؤيتها والتمتّع بمناظرها عبر المرتفعات التي تقود إلى القرية، التي ما إن دخلناها، حتى استقبلنا شبابها الذين سارعوا لملاقاتنا، لندخل أحد المنازل الذي تحول سطحه إلى مأوى لعدة عائلات افترشت الأرضية بعدما فقدت منازلها وفقدت معها العديد من ساكنيها حيث توفي 16 شخصا بسبب الحرائق المهولة على مستوى هذه القرية، التي ما يزال سكانها يروون تفاصيل الجحيم الذي عاشوه في لحظات، ويروون معه اللحظات الأخيرة للضحايا.
من الصعب أن يتكلم المتضررون ويعيدوا رواية تفاصيل ما عاشوه، إلا أنهم يحاولون التخفيف عن أنفسهم بالبكاء تارة وتارة بالحديث عمّا حصل ذلك اليوم، حيث كان العديد منهم نائمون في منازلهم وكانت الحرائق، وقتها، بعيدة عن قريتهم ومنازلهم وقد كانوا يشاهدونها من بعيد على شكل شعلة متوهجة تبدو من مسافة بعيدة، ولكن سرعان ما وصلت إلى قريتهم وحدود منازلهم في لمح البصر مع اشتداد الرياح التي كانت تحمل معها كتلا من النار بين السماء والأرض، وكانت تقذفها من مكان إلى آخر على بُعد أمتار، الأمر الذي أدى إلى اشتعال الحرائق في عدة أماكن في نفس الوقت، ولم يكن بالإمكان إطفائها، أو القيام بأي شيء من أجل تفادي تلك الخسائر في الأرواح.
الزائر لقرية آث أوصالح يقف على الوضعية الكارثية لطرقاتها الضيقة والمهترئة، والتي يصعب السير عبرها سيرا على الأقدام وحتى على متن المركبات، فهي عبارة عن مرتفعات، منحدرات ومنعرجات كثيرة تحمل معالم القرى القديمة، يصعب الوصول إليها دون دليل أو لافتة في الطريق، وتكبد سكانها، جراء الحرائق، خسائر مادية وبشرية، لا يزال رعبها يسيطر على نفوسهم، فبمجرد الوصول إليهم، يبدأون في سرد قصص الضحايا الذين توفوا هربا من ألسنة اللهب، حيث غادروا القرية على متن المركبات أملا في النجاة ولكنهم لقوا حتفهم في الطرقات بعدما احترقوا داخل المركبات التي عبرت وسط ألسنة اللهب التي أحاطت بهم من كل الجوانب، تاركين أعزاء عليهم داخل القرية، رفضوا مغادرتها وفضّلوا الموت داخل جدران بيوتهم.
معالم الحزن والأسى بادية على ملامح من بقوا أحياء في هذه القرية، الدموع لا تفارق الأعين، عبارات الحسرة والوجع تسبق أي كلام، الخوف والصمت يسود المكان، فلم يستطع أي أحد أن يتجاوز هذه المأساة نظرا لحجم الكارثة التي ألمت بهم، على الرغم من مرور عدة أيام على هذه الفاجعة، فلم تجف دموع الأمهات ولا الأخوات ولا الإخوة، على من فارقوهم للأبد، ليبقى عزاؤهم الوحيد زيارة قبورهم، وتذكّرهم في كل فرصة تتاح لهم للحديث عنهم وكيف واجهوا هذه الحرائق التي أخرجتهم من منازلهم أملا في الحياة ولكن الموت كان قدرهم.
الدعم النفسي.. حاجة ملحة
عائلات وجدت نفسها في العراء جراء الحرائق التي أتت على الأخضر واليابس، لتكتفي بافتراش الأرض بعدما خسرت كل شيء، أما العائلات الأخرى، فقد رفضت البقاء في منازلها لهول ما عايشته وبقي شعور الرعب والخوف في نفوسها يمنعها من المكوث في منازلها، في الوقت الذي يمرح فيه الأطفال ويلعبون دون وعي ودراية منهم بحجم الكارثة التي ألمت بقريتهم، لتكون ضحكاتهم ومرحهم الشيء الوحيد الذي يكسّر الصمت والحزن الذي طغى على أرجاء القرية وأسدل عليها رداء الوجع الذي لن يشفى سريعا.
غادرنا المكان بعدما تركنا سكان قرية آث أوصالح الذين أنهكهم التعب والحزن، فلا توجد كلمات من شأنها أن تخرجهم من هول ما عاشوه، ولكن الأيام كفيلة بأن تقلل من حجم المعاناة، خاصة مع جهود السلطات والقوافل التضامنية التي تصل تباعا إلى المنطقة، إلا أن الدعم النفسي يبقى من الضروريات القصوى التي يحتاج إليها سكان هذه المنطقة الذين تضرروا كثيرا من هول المشاهد التي عاشوها والرعب الذي ما يزال يسكن نفوسهم، وهو الأمر الذي وقفنا عليه عند مقابلتنا للعديد من السكان، الذين تحولت قراهم إلى مصدر للخوف والهلع من تكرر هذه الأحداث والمآسي.