-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

توريث القنوط!

توريث القنوط!
أرشيف

الدراسة الاجتماعية المدعّمة بإحصاءات صادمة، التي أبانت بأن سبعين بالمائة من “الحراقة” الذين يُرحّلون بالقوة إلى الجزائر، بمجرد أن تطئ أجسامهم الأرض الأوروبية ويزجّ بهم في السجون، يعودون للمغامرة مرة أخرى، وأحيانا عدة مرات، تؤكد بأن عملية “الهجرة السرية” التي استهوت شعبا من هذه الأمة، لم تكن أبدا نزوة عابرة، أو لحظة جنون متبوعة بندم أو تأنيب ضمير، وإنما هي مشروع قائم بذاته بالنسبة لفئة من المجتمع، الذي استقال من الحياة التي اقتُرِحت عليه، أو ربما من الحياة بعينها.

الدولة وعدت بسجن كل من يخاطر بأبنائه وينقلهم عبر قوارب الموت في رحلة البحث عن يابسة القارة العجوز، ولا أظن أن الذي استقال من الحياة، ستخيفه المحاكمة أو رميه العمر كلّه في غياهب السجون، ما دام قد منح “مشعل” المخاطرة لأبنائه، حتى يلحقهم بمجرد أن ينال الحرية التي لا يراها هو إلا هناك.

المشكلة النفسية التي يعاني منها جزء هام من المجتمع، لا ترتبط بفسحة زمنية معينة، وإلا انتظرنا الفرج بعد حين أو بعد انقراض هذا الجيل الذي وجد الأرض تجري من تحته أنهارا من خيرات، فعجز عن التمتّع بها بالرقي إلى أعلى المراتب، ولكن واضح بأن المواطن صار يسعى لأن يحقن مشاكله في كروموزوماته حتى يورّثها لأبنائه وأحفاده.

الرجل الذي يحمل أبناءه معه إلى أعلى عمارة ويهدد بحرق نفسه إن لم يتحصل على سكن اجتماعي، والسيدة التي تأخذ رضيعها في رحلة هجرة سرية في زورق من مطاط، والعائلات التي تبني أكواخها القصديرية على ضفاف الأودية وتخوم السكك الحديدية، والأب الذي يتعاطى المخدرات ويلوك كلام اليأس والقنوط في حضرة أبنائه، إنما هم جيل يرفض أن يتعذّب لوحده، فينقل العذاب للجيل القادم، في أسوأ “ثقافة” للأرض المحروقة، التي صار يطبقها الجزائريون على أنفسهم وعلى أبنائهم.

لكل أمة كبوتها، ولكل شعب غفوته، ولكن التاريخ يشهد على أن التوّابين كانوا دائما خير الخطائين، فالذي يقرأ ما وصلته ألمانيا من بؤس بعد جنون رجالاتها الذين دمّروها بحربين عالميتين طاحنتين، ويشاهدها الآن تتبختر بتطورها واقتصادها القوي، والذي يقرأ عن الضياع الذي تاهت فيه اليابان بعد نهاية الحرب الكونية الثانية، ويتابع ما تقدمه الآن للبشرية من اختراعات ولشعبها من رفاهية، يعرف بأن التخلف ليس قدرا مزمنا أو علامة مسجلة باسم شعوب دون غيرها، ولكن أن نجعل التخلف مشروع حياة كلما يئسنا من بلوغه، حاولنا مرة أخرى، ونقلناه للجيل القادم، فذاك ما قد يُخرجنا من التاريخ، الذي جعل الحياة دواليك، أياما منها لشعوب، وأياما أخرى لشعوب أخرى.

الشاب الجزائري يصاب بالإحباط عندما يعجز عن اجتياز شهادة البكالوريا فلا يحاول مرة أخرى، ويشعر بالقنوط عندما يبحث عن عمل ولا يجد مراده، ولكنه في “الحرقة” التي تُعرّض حياته للخطر، يأبى إلا أن يحاول مرات عديدة، ضمن حالة نفسية، حان الوقت لمعالجتها، برجال ليسوا هم من صنعوا هذه الحالة!

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
4
  • م.ب ( يتبع)

    نا لا أقصد التفضيل. ولكن ضد التضليل. البلاء عم ؛ وانتشر ؛ ورائحة الموت في كل مكان ؟ اللهم أحفظ عبادك. وارفع عنهم هذه المصائب ؟ لماذا تغظون الطرف عن بعض الكوارث ؟ ولماذا تحملون الدولة وحدها ؟ أليست العملية مقصودة ؟ أليس هذا طعم يقدم للشباب من أجل المزيد من الموت؟ وكره وطنه؟ قرأت منذ يومين عنوانا في جريدة يومية يقول صاحبه معلقا على قانون المالية 2019 .. يقول هذا الصحفي المعتوه :. .. الدولة خصصت مبالغة هامة من أجل شراء السلم الاجتماعي؛ والقدرة الشراء وطرح السؤال على شكل استغراب ؛ وانكار؟؟ يا لها من حماقة ؛ وافلاس للفكر. ؟! الدولة كرب الاسرة يخدم على أولاده! ياليت يأكله الشعب ؛ ولا الخيان.؟!

  • م/ أولاد براهيم.

    أستاذ أنا كوني أب؛ ومربي ؛ واعاني من الظاهرة .. لكن لا أتفق معك في التشخيص؛ ولاالمعالجة ؛ وولاالاسباب ؟ فلا يمكن للدولة وحدها تتحمل ؟ ولوكان ذلك لقلتم انها فاشية؛ ديكتاتورية ؛ وبوليسية؛تقمع الحريات.كما أنني ضد عملية السجن للعائدين؛ أو الذين ألقي عليهم القبض قبل الوصول. ثم لماذا تجعلون من ظاهرة الحرقة مشكلة تحاكمون بها الدولة ؟ هناك مشكلة أكبر من الحرقة . وهي أرهاب الطروقات. ؟ قرأت منذ أيام خلت مقالة صغيرة على صفحات جريدة le quotidien d'oran يقارن صاحبها بين خسائر الحرقة؛ وارهاب الطرقات في اسبوع : 125 قتيل ؛ و1700 جريح دون عد الخسائر المادية بلا حساب؟ بينما 20 قتيلا و27 مفقودا ؟ أيهما كارثي؟

  • ابن الجبل

    لا نحمل الرجال أو العائلات توريث القنوط الى أبنائهم ، بل المسؤولية يتحملها المسؤولون في الجزائر ، الذين رسموا القنوط واليأس في شباب الجزائر ، وجعلوها وصمة عار في جبينهم أمام الدول. بلد غني بالثروات فقير في التسيير و التدبير ... فلا لوم اذن على الشباب الميؤوس ، الذي ضيع بوصلة الأمل بعدما احترقت كل أوراقه الراابحة !.

  • rachid

    كلام في الصميم وحبذا لو تطرقت إلى الأسباب التي أدت إلى قنوط الشعب الجزائري ، وللتنويه فقط ألمانيا لم تنهض إلا بعد أن رحل النظام بالكامل والذي كان سببا في دمارها... حكم القوة وفرض الغرامات والتضييق سوف ينتج شعب متمرد. ورأيي المتواضع هو أن العلة ليست في الشعب بقدر ماهي في السياسات المتبعة من النظام. وشكرا على المقال الرائع والمفردات الرنانة.