جذور فكرة الدين الإبراهيمي وامتداداتها (2/2)

المشكلة تعقدت أكثر عندما تغلبت الأيد الآثمة على النيات الطيبة، فأخرجتها من إطارها المعقول الذي يمكن تفهُّمه في الحرص على الوحدة الإنسانية ومصيرها في هذه الأجواء الملبَّدة بغيوم الحروب والنزاعات العرقية والطائفية، التي وإن كنا لا نعتقد نجاحها للأسباب التي ذكرنا بعضها في القسم الأول من هذا المقال، إلا أن العاقل يتفهمها في إطارها؛ لأن الإنسانية حقيقة كانت مهددة بالانقراض بسبب الخلافات السياسية والعرقية، سواء بين القوميات في الإطار الإسلامي ومثال ذلك الصراع في الشام بين العثمانيين والعرب، أو بين الفئات العرقية الأوروبية فيما أفرزته الحرب العالمية الثانية.
لقد تحولت الفكرة من محض البحث عن الأطر الجامعة للثقافات المختلفة والديانات المتنازعة والأعراق المتباينة، إلى أشكال متنوعة من التزييف والتحريف للديانات المنافِسة ومنها على وجه الخصوص الكونفشيوسية والإسلام، وقد صرح بذلك صاحب “صراع الحضارات” الذي صدر كتابه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، إذ قال صراحة إن القوى الصاعدة في مواجهة التجربة الغربية والأمريكية تحديدا، وهما الإسلام والكونفشيوسية… والدراسات قبل ذلك وبعده المتخوفة من الإسلام تحديدا لاعتبارات متعددة كثيرة جدا في الغرب، منها وجود المغتربين المسلمين الذين اضطروا للهجرة إلى الغرب في الفترة الاستعمارية بحثا عن العيش الكريم، وعددهم يزيد يوما بعد يوم، إذ تتوقع بعض الدراسات نشأة دولة إسلامية في الغرب في أفق 2050م.
الخوف إذن تحوَّل من خوف على الإنسان ومصيره بسبب ما يتهدده من مخاطر، إلى الخوف من غلبة طرف بقيمه وثقافته على طرف آخر لا يراد له أن يسقط، رغم أن هذا الذي يراد له أن لا يسقط يحمل بذور فنائه فيه… أما الطرف الذي يخاف منه فغير مقبول، ولو قدم من الضمانات ما يحقق للإنسان القيم التي يبحث عنها منذ قرون.
واستمرار قدرة الشعوب المستضعَفة على المقاومة، لم ينفع معها لا التهديد ولا الوعيد ولا القمع ولا الأسلحة الفتّاكة، بفضل تمسُّكها بدينها وشرعية مساعيها، وما دامت القوى الغاشمة لم تستطع التأثير المباشر على هذه الشعوب المستضعَفة، عملت على تنصير هذه الشعوب، وعندما فشلت في تنصيرها رضيت بما دون ذلك، بإخراجهم من دينهم عبر الأنشطة المشبوهة ولو لم يتنصَّروا، ثم انتقلت إلى تشويه ديانات هذه الشعوب.
والتجربة مع تشويه الإسلام بدأت عندما أعلن قساوسة من العالم أنه لا يمكن التأثير على المسلمين وعلى تمسكهم بدينهم ما دام القرآن بين أيديهم، كما تقدمت دراسات أخرى في نفس الاتجاه تعلن أن تمسك المسلمين بدينهم أقوى عائق في طريق التأثير فيهم، ومن عمليات التشويه هذه تشجيع وتنشيط التدين المنحرف، ببعث بعض الطرق الصوفية المنحرفة، وإنشاء جماعات أخرى أكثر انحرافا، مثلما هو الحال مع الجماعة الأحمدية التي نشأت في الهند برعاية بريطانية وغير ذلك كثير.
تتمة لهذه الجهود المبذولة لعشرات السنين، كانت فكرة الدين الإبراهيمي، الذي يراد له أن يكون دينا بديلا للإسلام الذي يراه خصومه “مذهبا” يمثل عرقا واحد من أعراق البشرية، وبالتالي لا بد من انتزاعه من هذا الواقع وتعميمه في إطار واحد هو وهو أبو الجميع جد الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وذلك ليس حرصا على البشرية وصحة الدين والتدين أو حبا في إبراهيم ودينه، وإنما تماشيًّا مع التجربة الغربية والتجربة الأمريكية على وجه التحديد.
ومحاولات التشويه لا تزال قائمة إلى اليوم، ومنها على سبيل المثال المصحف المحرَّف الذي وُزِّع في الكويت قبل سنوات بعنوان “الفرقان”، وكتاب “مثلث التوحيد” الذي هو كتابٌ مُشَكَّل من نصوص من الكتب المقدسة ومنها القرآن الكريم، وهاتان التجربتان من ورائهما المؤسسات الأمريكية التي كانت ولا تزال تبحث عن “إسلام أمريكاني” كما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله في منتصف القرن العشرين. وليس بعيدا عن هذه العلمليات التشويهية المغرضة الحملات الإعلامية المتتالية على شخص سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ابتداء من آيات سلمان رشدي الشيطانية المتزامنة مع سقوط جدار برلين وبروز فكرة العولمة، وانتهاء برسوم مجلة شارلي إيبدو وبينهما الكثير من التجارب المخزية في حق الإنسانية وليس في حق الإسلام والمسلين فحسب.
وإذا كان تشويه القرآن خطرا، فإن الأسلوب الأخطر كان في المس بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان سببا في ردود أفعال طبيعية من المسلمين دفاعا عن نبيهم، وهي التهم الجاهزة التي ينتظرها الغرب ليُثبت أن المسلمين “همج” ومستعدون لفعل أي شيء من أجل فرض عقائدهم على الناس… ولكن منطق الأشياء كان دائما يسير في الاتجاه الصحيح وهو منطق التاريخ، إذ أقبل العالم -في هذه الظروف والمعاناة التي تمر بها الأمة وديانتها الإسلامية- على دراسة الإسلام من مصادره، فدخل الناس في دين الله أفواجا؛ لأن البشرية بلغت مستوى من الإدراك لا تسلّم بسهولة في كل شيء، ولذلك لم يعرف العالم إقبالا على الإسلام ودراسته ومعرفته إلا في هذا الجو الهجومي المركَّز على الإسلام والمسلمين، فراح الناس يبحثون في تاريخ أفغانستان وطالبان هذه التي عُبِّئ العالم كله لمحاربتها… ولمعرفة هذا النبي وبهذه المواصفات التي يذكرونها… وحقيقة هذا “القرآن الإرهابي” الذي لا يؤمن بعقيدة الآخر… وهذا المسلم المجسَّد في القاعدة وداعش والمداخلة… وغيرهم وغيرهم، فكانت النتيجة إقبال الآلاف من نخب الغرب والشعوب العاقلة على الإسلام وفهمه وتفهُّم انحراف بعض فئاته تحت ضغط المظالم التي يرتكبها الاستعمارُ ووكلاؤه في العالم الإسلامي.
ولم تقف فكرة التشويه عند حد جهود الغربيين بادِّعاءاتهم، وإنما تجاوزتها إلى فئات أخرى من داخل العالم الإسلام، فقد جُنّدت مجموعات بطرق مباشرة أو غير مباشرة، للقيام بمَهمّة الطعن في نصوص الوحي وما فُهم منها، وفي التشكيك في نسبة بعض الأحاديث للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي كتب السنة وفي صحيح البخاري تحديدا وفي معاني بعض الآيات القرآنية… وما تابعناه خلال نصف قرن على الأقل من ادِّعاءات تشكيكية في نصوص الوحي، سواء في ظل ما يسمى بـ”القرآنيين” الذين لا يعترفون بغير القرآن وحيا، أو الذين لا يقبلون من السنة إلا ما كان عمليا، أو الذين لا يقبلون من الحديث إلا ما وافق عقولهم، أو الذين يشككون في مطلق كتب السنة بحجة بُعدها الزمني عن زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أو الذين نحوا منحى جديدا في وضع منهج يتماشى والمنظومة الغربية في فهم نصوص الوحي مثلما فعل محمد أركون ومحمد شحرور وغيرهما من الذين ذهبوا يُؤوِّلون نصوص الوحي وفق المنظومة الغربية، في أمور ليست من اختصاص العقل أصلا؛ لأن الدين لا يُفهم إلا من الوحي.
جميع هذه الأنشطة التي أريدَ لها أن تكون طعنا في الوحي وفي التراث، مصدرها واحد وهو الاستشراق، سواء بطبعته التي ظهرت مع الحركة الاستعمارية على أيد فطاحلته أمثال غولد زيهر وماسنيون وفوكو، أو الذين هم اليوم في محاضن مراكز البحث والدراسات التي تنشئها جهات معروفة بانتمائها الثقافي والسياسي للأمريكان ومن شايعهم.
وفي هذا السياق وتتمة لهذه الجهود المبذولة لعشرات السنين، كانت فكرة الدين الإبراهيمي، الذي يراد له أن يكون دينا بديلا للإسلام الذي يراه خصومه “مذهبا” يمثل عرقا واحد من أعراق البشرية، وبالتالي لا بد من انتزاعه من هذا الواقع وتعميمه في إطار واحد هو وهو أبو الجميع جد الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام، وذلك ليس حرصا على البشرية وصحة الدين والتدين أو حبا في إبراهيم ودينه، وإنما تماشيًّا مع التجربة الغربية والتجربة الأمريكية على وجه التحديد، التي لا يمكن للبشر أن يأتوا بمثلها لأنها التجربة الوحيدة التي جمعت الأعراق والألوان والألسن والديانات والثقافات وكوّنت منهم دولة هي من أقوى الدول الآن، وهي قادرة على الصمود، ومن ثم لا بد من أن يوجد دينٌ واحد يعيش في ظله الجميع ويكون من وضع هذا النظام الذي وحَّد العالم في دولة!
كلامٌ جميل ومغري ومهم ولكن يغيب عن هؤلاء أن التجربة الأمريكية رغم قوتها الآن، لكنها مهددة في أي لحظة بالسقوط الحر؛ لأنها كما يسميها محمد حسنين هيكل رحمه الله “شركة ذات أسهم”، أي أن المواطن فيها شريك لأخيه المواطن بسهم الضرائب التي يدفعها، أما فيما عدا ذلك فلا أحد يلتقي مع أحد إلا أهل الديانات المختلفة، المسلمون يشعرون بالتقارب فيما بينهم، واليهود والنصارى والبوذيون كذلك، وربما من أهل المناطق الأخرى المتميزة بأعراق معينة يشعرون بذلك بموجب العرق والانتماء السياسي والثقافي، ولذلك نجد أن الإدارة الأمريكية عبارة عن مجموعات من اللوبيات تحقق ما تريد بفضل قوة الجهة الضاغطة التي تنتمي إليها وليس بمجرد ما تدفع هذه الجهة من ضرائب. وفي ظل مثل هذه الإدارة، فإنّ منطق القوة هو الذي يحقق المكاسب وليس منطق الحق، ولذلك نجد أن القضية الفلسطينية، لم تتخذ فيها الإدارة الأمريكية قطّ موقفا مضادا لليهود، لأنهم يمثلون اللوبي الأقوى على الإطلاق في الإدارة وجميع الجهات النافذة فيها، وهي مستعدة بالتضحية بكل شيء في سبيل تحقيق تلك الغاية الصهـيونية.
إنّ الديانة الإبراهيمية هي ثمرة من الثمار التي تريد الأمن في الشرق الوسط، ولو على حساب شعب وأرضه، وقد حاولت الجماعة الأحمدية أن تحقق لهم جزءا من هذا المطلب، فقد قررت تعطيل فريضة الجهاد في الإسلام، وجاءتهم بنبي جديد، مقرّه المركزي في بريطانيا وثاني مركز في الأهمية القدس.