حتى أنت يا حفتر!

من الصّور المؤلمة والمخزية التي ضجّت بها مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات العربية وتابعها العالم كلّه هذه الأيام، تعرّض عشرات الناشطين المتضامنين مع الأطفال والنساء والشيوخ المجوّعين في غزة، للضرب والإهانات والتنكيل والاحتجاز والترحيل في سرت الليبية ومصر، لأنهم حاولوا إغاثة الفلسطينيين المجوّعين ونقل ما تيسّر لهم من مساعدات في إطار قافلة مغاربية تحمل اسم “قافلة الصمود”!
هؤلاء الناشطون من تونس والجزائر وموريتانيا وبلدان عربية وأوروبية عديدة آلمهم ما رأوه من صور يندى لها الجبين عن أطفال تحوّلوا إلى هياكل عظمية يكسوها جلد رقيق، بفعل التجويع المنهجي المتواصل منذ أشهر في غزة، وأفجعهم ما سمعوه من أخبار موت العديد من الأطفال والكبار جوعا، فتحرّكت فيهم روح الأخوّة الإسلامية والعربية والإنسانية وقيم النخوة والشهامة والأنفة، وتداعوا إلى تشكيل قافلة تحمل غذاء وماء وأدوية ومساعدات شتّى لهؤلاء المجوّعين، ثم انتظموا في 20 حافلة و350 سيارة وشاحنة لإيصال المعونات إلى غزة برّا عن طريق تونس وليبيا ومصر، وهذا أقلّ واجب يمكن أن يقدّموه لهؤلاء المجوّعين منذ 20 شهرا من الحرب.
انطلقت القافلة من تونس وانضمّ نحو 200 جزائري إلى إخوانهم التونسيين، ومرّت بسلام في الأراضي التونسية في طريقها إلى ليبيا؛ فتونس معروفة بتضامنها الكامل مع فلسطين وترفض أيّ شكل من أشكال التطبيع الذي يسمّيه رئيسها قيس سعيّد باسمه الحقيقي وهو “الخيانة”، ولا يمكن أن تعرقلها أو ترفض السماح لها بالمرور إلى الأراضي الليبية، وهناك قابلتها أيضا السلطات الشرعية في طرابلس بالترحاب، وانضمّ إليها الكثير من الليبيين وغيرهم، فأصبح عددهم نحو 1500 ناشط عربي وأوروبي، في حين فضّل آخرون السفر جوّا من أوروبا إلى القاهرة لانتظار القافلة والانضمام إليها في مصر، لكنّ سلطاتها شرعت في التضييق عليهم، ومصادرة جوازاتهم وهواتفهم، واحتجازهم لنحو 13 ساعة كاملة، قبل أن تهاجمهم فجأة مجموعة من “البلطجية” وترشقهم بالحجارة والشماريخ والزجاجات الفارغة وتضربهم بالهراوات، فأصابوا العديدين بجراح وكدمات ومنهم برلمانيان من الكويت وتركيا، والتقطت كاميرات الهواتف هذه الصور المخزية وبثّتها للعالم كلّه ليرى إلى أيّ درجة انحطّت أخلاق بعض العرب الذين تجرّدوا من كلّ قيم الإسلام والعروبة وحتى الإنسانية وباتوا ظهيرا مناصرا للكيان الصهيوني الفاشي في جرائمه الحاقدة، وإلا كيف يقوم هذا الكيان البغيض بتجويع 2.3 مليون فلسطيني، ويقتل كل يوم العشرات من منتظري المساعدات أمام مراكز توزيع الغذاء بغزة، ثم يقوم هؤلاء “البلطجية” بضرب من يتعاطف مع هؤلاء المجوّعين المستضعفين وإهانتهم على أرض الكنانة؟ أليس هذا تكاملا للأدوار وسفالة وحقارة وخيانة لا تغتفر؟
وحينما كان الناشطون العرب، ومنهم جزائريون، يهانون في مصر وهم ينتظرون وصول “قافلة الصمود” إلى هناك، كانت القافلة قد وصلت إلى شرق ليبيا الذي يسيطر عليه المنشقّ خليفة حفتر، المدعوم من الإمارات ومصر، وهناك تعرّضت إلى ما يشبه الحصار بذريعة ضرورة الحصول على رخصة للمرور، لكنّها لم تحصل قطّ على الرخصة، بل تعرّض 15 ناشطا للاعتقال إلى حدّ الساعة، ومنعت عن البقية إمدادات الغذاء والماء والدواء، وضغط عليهم حتى أجبروا على الإعلان عن تخلّي القافلة عن هدفها بالدخول إلى مصر، ولا ريب أنّ حفتر قد تلقى “طلبا” مصريا بمنعهم هناك وعرقلتهم، وامتثل له على الفور لأنّ القاهرة تدعّمه في صراعه مع حكومة طرابلس منذ سنوات، ولا يمكن أن يرفض لها طلبا، فضلا عن توجّهاته التطبيعية أيضا؛ فقد أرسل ابنه صدام حفتر إلى تل أبيب في الفاتح نوفمبر 2021، بوساطة من الإمارات وتشجيع منها، ليطلب دعما عسكريا وسياسيا من الصهاينة مقابل تطبيعه معهم حينما يصل إلى الرئاسة، والحمد لله أنّ الانتخابات الرئاسية المقرّرة، آنذاك، في ديسمبر 2021 لم تجر ولم يصل هذا المطبّع إلى الحكم.
إنّ ما حدث في ليبيا ومصر مع الناشطين في “قافلة الصمود” من ضرب وإذلال وقمع ومنع من إيصال المساعدات إلى غزة، يبقى وصمة عار في جبين من قام بهذه الجرائم النكراء، كما يعبّر عن مدى الانحطاط والهوان الذي بلغه بعض العرب، ومدى تخلّيهم عن الفلسطينيين وقضيتهم العادلة وانبطاحهم المطلق للصهاينة، فالقضية قضية شعب محاصر مجوّع ومهدّد بالتهجير وليست قضية “حماس” وحدها.. ولكنّها غزة الكاشفة التي فضحت كل الخونة والعملاء والمتصهينين وأسقطت عنهم آخر أوراق التوت.