حتّى لا ينفكّ الميثاق الغليظ!

لا شكّ أنّ واقع الأسرة المسلمة في هذا الزّمان، ما عاد يسرّ مسلما، بعد ما لا يقلّ عن قرن من مكر الليل والنهار الذي حاكه النّظام العالمي، وأشاعته المنظّمات الدولية ووسائل الإعلام؛ النظام العالمي الذي شغل الرجل بقمة العيش وجعلها همّه الأكبر وربما الأوحد بالليل والنهار وأنساه نفسه وبيته وأهله وأبناءه، فضلا عن دينه وأمّته.. وبغّض البيتَ والإنجاب وقوامة الرجل للمرأة المسلمة وحرّضها على الخروج بسبب ومن دون سبب وعلى تحديد النسل ومزاحمة الرجل في قوامته.
بعد أن كانت العلاقة بين الزوجين في عقود مضت علاقة مودة ورحمة، أضحت اليوم علاقة مشاركة ومشاكسة، وأصبح الزّوج ينظر إلى زوجته على أنّها بلاء جاثم على صدره، والزّوجة تنظر إلى زوجها على أنّه مخلوق زائد ومزعج في حياتها؛ تتخذ قرارها بالتخلص منه عند أول مشكلة أو خلاف، والمصيبة أنّها ربما تجد محاميا لاهثا خلف المال يسايرها في طيشها ويمضي بها إلى الهاوية!
امتلأت المحاكم بقضايا الطلاق والخلع، حتى أصبحنا في بلدنا المسلم الجزائر نحصي ما لا يقل عن 240 حالة طلاق يوميا.. أي 90 ألف حالة سنويا. وأضحينا نرى ثمار ذلك في واقعنا، بيوتًا لا تسمع منها إلا الصراخ، ولا ترى أبناءها إلا وهم هائمون على وجوههم يلوذون بالشوارع والزوايا المظلمة فرارا من البيت الذي لم يعد سكنا إنّما أمسى حلبة صراع. بعض الأبناء جنحوا إلى المخدّرات، وبعضهم أصيبوا بأمراض نفسية بسبب كثرة الخصومات بين والديهم.. أسر كثيرة تشتّتت وأبناء كثر يُتموا بسبب أنّ والديهم نسوا بأنهم مسلمون، وأنّ هناك شرعا يحكمهم يجب عليهم أن يلجؤوا إليه عند الخلاف وينقادوا له، وأنّهم مسؤولون ومحاسبون عن أبنائهم.
لقد أنستنا الحياة المادية أنّ ديننا قد جعل الزّواج ميثاقا غليظا، لا يجوز الاستهتار والتلاعب به.. ووضع على طريق الزّوجين ممهلات كثيرة قبل أن ينتهيا إلى فك الميثاق الغليظ؛ فلا يجوز لهما أن يلجآ إلى الطلاق والفراق عند أول خلاف، ومن فعل ذلك فهو آثم إثما عظيما عند الله، يقول النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: “أَيُّمَا امْرَأَةٍ سَأَلَتْ زَوْجَهَا طَلَاقًا فِي غَيْرِ مَا بَأْسٍ فَحَرَامٌ عَلَيْهَا رَائِحَةُ الْجَنَّة”، ويقول: “إن المختلعات والمنتزعات هن المنافقات”.
لكن، في واقعنا: عند أوّل خلاف بين الزّوجين ينطلق الشيطان يؤجّج النار في قلب الزوج ويوقد اللهب في قلب الزّوجة، حرصا على أن يظفر بجائزة إبليس اللعين الذي يَعدّ التفريق بين الزّوجين من أعظم الأعمال التي يكافئ عليها جنده وأبناءه.. ومع كلّ أسف ينسى الزّوجان أنّهما مسلمان، يطويان سنوات الوفاق والرحمة والمودة التي كانت بينهما، وينسى كلّ واحد منهما ما في زوجه من الخير، فينطلق لسان الزّوج برصاصة الطلاق، وربّما ينطلق لسان الزّوجة –قبل ذلك- بسبّ الزّوج واستفزازه وتحدّيه فتقول له مثلا: “طلقني إن كنت رجلا”، فينفخ الشيطان في قلب الزّوج ويظنّ أنّه سيفقد رجولته إن لم ينتقم لكبريائه ويطلّق زوجته، فتسارع هي إلى جمع أغراضها والخروج من البيت، فإذا ابتعدت عنه أحاط بها أهلها وأيّدوها في قرارها قبل أن يسمعوا من زوجها؛ تحفّ بها أمها وأخواتها وصديقاتها، كلهنّ يحرّضنها على زوجها، ويحيط بها شياطين الإنس والجنّ ليملأوا قلبها ببغض زوجها ويحرّضوها على اللجوء إلى المحكمة وعلى عدم العودة إليه مهما كان الأمر.. وهكذا حتى يصل الأمر إلى الفراق والشقاق.. والسّبب أنّ شرع الله نُسي وغيّب.
شرع الله – جلّ وعلا – يحرّم هذا النزق، ويحرّم هذا الهدم السريع لبنيان الأسرة المسلمة.. في شرع ربّنا: إذا حدث أيّ خلاف بين الزّوجين، فإنّ أوّل خطوة على الطّريق هي الموعظة الحسنة والعتاب الرفيق: يقول الله تعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ))؛ إذا رأى الزّوج أنّ زوجته أخطأت أو قصّرت في واجبها فإنّه يبدأ معها بالموعظة الحسنة، يكلّمها بكلمات رفيقة ويذكّرها بأيام الصفو والمودّة التي كانت بينهما، ويذكّرها بأنّ طلب الطلاق من دون بأس حرام، ويلفت نظرها إلى أبنائهما، ويطيّب خاطرها بكلمات يعبّر بها عن مودته لها وتمسّكه بها، وأنّها روح روحه وملاك قلبه، فإذ بالشيطان يندحر ويولي هاربا، وإذ بالزوجة تهدأ وتتحول من لبؤة مكشرة إلى غزالة وادعة.. وهكذا الزوجة الصالحة العاقلة، إذا رأت من زوجها خطأ أو غضبا، كلمته بكلّ تواضع وترفّق، ووعظته بكلّ رحمة وحنان، وعبّرت له عن مودّتها له وتقديرها له لأنّه زوجها وأبو أبنائها، ووضعت يدها في يده وقالت: والله لا أتحرّك حتى ترضى عنّي. يقول النبيّ – صلّى الله عليه وسلّم -: “نساؤكم من أهل الجنة الودود الولود العؤود على زوجها، التي إذا غضب جاءت حتى تضع يدها في يد زوجها، وتقول: لا أذوق غمضا حتى ترضى”.
هذه أول خطوة على طريق الإصلاح بين الزّوجين، فإذا لم تنفع هذه الخطوة فإنّ الزّوج لا يجوز له أن يقفز بعدها مباشرة إلى الخطوة الأخيرة وهي الطلاق والطرد من البيت، بل يجب عليه أن ينتقل إلى الخطوة الثانية، وهي التعبير لزوجته عن غضبه وعدم رضاه، يقول الله –تعالى-: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ))، يهجر زوجته في المضجع، أي في البيت، بل في نفس الغرفة، يبيت مع زوجته في غرفتها، ولا ينتقل أبدا إلى غرفة أخرى، لكن يعطيها ظهره تعبيرا عن غضبه، وينتظر ردّ فعلها ويصبر على ذلك، وهو يرجو في قلبه ويدعو بلسانه لزوجته أن تعود وتثوب إلى رشدها.. وكذلك الزّوجة، إذا رأت من زوجها ما يعكّر الحياة الزّوجية، فإنّها تعبّر عن عدم رضاها بنظراتها الكسيرة وكلماتها التي تنمّ عن الأسف، ولا يحلّ لها أن تهجر زوجها أو تهجر فراشه، والزّوجة تملك سلاحا مهما يمكن أن يفعل فعله في قلب زوجها وهو دموعها، فدموعها كفيلة بأن تردّ زوجها إلى رشده وتوقفه على خطئه وتقصيره. بعكس العناد والهجر ورفع الصوت فإنّه في الغالب لا يزيد الزّوج إلا عنادا وصدودا.
إذا لم تنفع هذه الخطوة في إزالة الخلاف، ورأى الزّوج أنّ زوجته مصرة على نشوزها ومكابرتها واستخفافها به، فإنّه يباح له أن يضربها ضربا غير مبرح، ضربا يقصد به الزّجر والتأديب وليس الإهانة وإلحاق الضرر، لا يجوز أن يكون على الوجه ولا بأيّ وسيلة يكون بها الأذى، إنّما يكون بما لا يلحق الأذى، وقد أشار بعض العلماء إلى أنّ ضرب الزّوج لزوجته إنّما يكون بعود سواك أو قلم أو منديل ملفوف أو نحو ذلك. في تفسير قول الله –تعالى-: ((فاضربوهنّ)) روى ابن أبي حاتم عن عطاء قال: “بالسواك ونحوه”. وروى عن ابن عباس –رضيَ الله عنه- أنّه سئل: ما الضرب غير المبرح؟ قال: “بالسواك ونحوه”.. وقد جاء في الموسوعة الفقهية: “قال المالكية، وبعض الشافعية، والحنابلة: يؤدبها بضربها بالسواك ونحوه، أو بمنديل ملفوف، أو بيده، لا بسوط، ولا بعصا، ولا بخشب؛ لأن المقصود التأديب” اهـ.
فإذا ثابت الزّوجة إلى رشدها فإنّه لا يجوز للزّوج أن يتمادى في أذيتها وإهانتها، قال تعالى: ((وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)).
فعلى الأزواج الذين يستعرضون عضلاتهم على زوجاتهم، ويفرّغون مخزون الغضب في نسائهم أن يتّقوا الله ويعلموا أنّ ضرب الزّوجة لا يجوز أبدا حتى تبلغ مرحلة النشوز والعناد والاستكبار ولا تنفع معها المواعظ ولا الهجر، فإذا بلغت هذه المرحلة فإنّها تضرب ضربا غير مبرح، القصد منه تأديبها وإعانتها على نفسها، وليس إذلالها وقهرها، وقدوتنا في هذا حبيبنا – صلّى الله عليه وسلّم – الذي “ما ضَرَبَ شيئا قَطُّ بيده امْرَأَةً ولا خَادِمًا إلا أَنْ يُجَاهِدَ في سَبِيلِ اللَّه”، والذي قال حينما سئل عن رجال يضربون زوجاتهم: “ليس أولئك بخياركم”.
يُتبع بإذن الله…