حتّى لا ينفكّ الميثاق الغليظ (2)!

بعد أن رأينا أنّ الزّوج لا يجوز له أن يضرب زوجته إلا إذا لم تُـجْدِ الحلول التي تسبقه، وإذا ضربها فإنّ ذلك يكون بلطف وعطف.. وهنا قد يطرح السؤال: وماذا لو كان الزّوج هو الناشز، أي إنّه هو من ظلم زوجته واستعلى عليها، أو أخطأ وأصرّ على خطئه؛ هل يجوز للزّوجة أن تضربه؟ والجواب: كلا، لأنّ المرأة سلاحُها في لينها ورِقتها، وربّما في نظرتها الحسيرة ودمعتها المنسكبة وابتسامتها المكتومة، فإن أصرّ الزّوج على ظلمه واستعلائه، فإنّها لا تنتقل مباشرة إلى طلب الطّلاق أو الخلع، إنّما تنتقل إلى الخطوة التي بعدها، وهي الخطوة التي ينتقل إليها الزوج إذا لم ينفع الضرب غير المبرح مع زوجته.
الخطوة التي تلي الضرب غير المبرح، هي اللجوء إلى العقلاء من أسرة الزّوجة وأسرة الزّوج، يقول الله تعالى: ((وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا)) (النّساء: 35).
المرأة العاقلة إن وجدت من زوجها ظلما أو استعلاءً، فإنّها تبدأ بالموعظة الحسنة والكلمة الطيّبة، ثمّ النظرة الحسيرة والدمعة الحانية، فإن لم ينفع ذلك فإنّها تلجأ إلى العقلاء خاصّة من أهل الزّوج، تلجأ إلى أبي الزّوج أو عمّه أو أخيه الأكبر، قبل أن تلجأ إلى أهلها، فإن لم تجد من أهل الزّوج من يعينها ويزجر زوجها، لجأت عند ذاك إلى أهلها لتلتمس منهم عقد مجلس للصلح وليس لتستعديهم على زوجها.. وهنا لا يجوز لأهل المرأة أن يسارعوا إلى الحكم قبل أن يسمعوا من الزّوج، ويحرم عليهم أن يسارعوا إلى تطليق المرأة من زوجها، بل يجب عليهم أن يتواصلوا مع الزّوج ومع العقلاء من أهله ليعقدوا مجلس صلح، يصلحون فيه ما أفسده الشيطان بين الزّوجين، ويعينان الزوجين على فتح صفحة جديدة وعلى وضع ميثاق عِشرة بينهما.
فإذا لم يفلح الحكماء في الصلح بين الزّوجين، فعند ذاك فقط يجوز للزّوج أن يطلّق زوجته طلقة واحدة، ولا يجوز له أن يطلّقها أكثر من طلقة. كما يحرم عليه أن يطلّقها وهي حائض، فإن طلقها وهي حائض فهو آثم، وتحتسب الطلقة، كما يسنّ له أن يطلّقها في طهر لم يجامعها فيه.
فإذا طلّق الزّوج زوجته، فإنّه لا يجوز له أن يخرجها من بيتها، ولا يجوز لها أن تخرج، بل تمكث في بيتها ما دامت في عدتها، فهي لا تزال زوجة لزوجها ما دامت معتدّة، والزّوج الذي يطرد زوجته من بيتها عند الطلقة الأولى آثم إثما عظيما، وكذا الزّوجة التي تخرج من بيت زوجها عند الطلاق قبل أن تنقضي العدّة، آثمة عند الله، يقول الله تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا))، وعندما تمكث في بيتها أثناء العدّة فإنّها لا تلبس الخمار ولا الحجاب، بل تتزيّن لزوجها وتعترض له، لعلّه يخزي الشيطان ويردّها ما دامت في عدّتها.
لعلّ من أعظم أسباب تفكّك الأسر وتشرّد الأبناء في هذا الزّمان خروجَ الزّوجة من بيتها عند أول كلمة طلاق تسمعها، وهذه معصية، ومخالفة واضحة لشرع الله الذي أراد للزّوجين أن يمكثا في بيت واحد أثناء العدّة، حتى تهدأ العاصفة وتتحرّك الضمائر ويستعيد الزوجان ذكريات الماضي الجميل ويفكرا في مستقبل الأسرة ومستقبل الأبناء، وحتى يكونا بعيدين عن تدخّل الفتّانين الذين يزيّنون للطّرفين الفراق والشّقاق.
حتى وإن أخطأت الزّوجة وخرجت من بيتها وانتقلت إلى بيت والديها، فإنّه لا يجوز لوالديها ولا لإخوتها وأخواتها وصديقاتها أن يخبّبوها على زوجها ويحرّضوها عليه، بل يجب عليهم أن يعينوها على الشيطان وينصحوها بالتريث والتعقل.. ويظلّ حقّ الزّوج في أن يردّ زوجته قائما، ما دامت في العدّة، ولا يجوز لوالديها ولا لإخوتها أن يمنعوها من العودة إلى زوجها.. فإذا انقضت عدّتها قبل أن يرجعها زوجها، ثمّ بعد انقضاء العدّة بدا له أن يرجعها، فإنّه يجوز له ذلك، لكن بعقد ومهر جديدين، ولا يجوز أبدا لوالديها وإخوتها أن يمنعوها من العودة إلى طليقها، يقول الله تعالى: ((وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر)).
ربّنا العليم الحكيم عندما شرع الطلاق بين الزّوجين أراده دواء ولكنّنا أبينا إلا نجعله سلاحا.. وكما أنّ الدواء يؤخذ في وقته المناسب وبقدره المناسب وليس مرّة واحدة، فهكذا الطّلاق يؤخذ في وقته المناسب بعد الوعظ والهجر الجميل والضرب غير المبرح وبعد تحكيم المصلحين، ويؤخذ طلقة أولى رجعية بعدها عدّة كافية لإعادة النّظر والتفكير وتقدير العواقب، فإذا لم تنفع الجرعة الأولى وعاد المرض مرّة أخرى تأتي الطلقة الثانية في وقتها المناسب بعدها عدّة كافية للتفكير والتقدير، ثمّ إذا عاد المرض مرة ثالثة فعند ذاك يكون استمرار العشرة قد استحال، ويكون الانفصال هو الحلّ الأخير.
فمتى نعود إلى ديننا وشرع ربّنا؟ متى نكفّ عن التحاكم إلى الأهواء والنزوات؟ إلى متى ونحن نطيع الشّياطين الذين يفرحون غاية الفرح ويتقرّبون إلى زعيمهم إبليس بالتفريق بين الزّوجين؟!
فلنتق الله ولنسع بالصلح بين الأزواج المتخاصمين، ولا نكوننّ عونا للشياطين.. على الزّوجات أن يتّقين الله في بيوتهنّ وأبنائهنّ ولا يسمعن لنزغات المفسدات.. وعلى الأزواج أن يخافوا الله في بيوتهم وزوجاتهم وأبنائهم ولا يرضخوا للغضب.. الرجولة الحقة ليست في المسارعة إلى البتر والقطع، إنّما في التعقّل ومحاولة الإصلاح والمحافظة على الأسرة من التشتت والضياع.