-- -- -- / -- -- --
إدارة الموقع

حراكٌ مُبارك قبل التغيير الأكبر

حراكٌ مُبارك قبل التغيير الأكبر
ح.م

 أصاب الرئيس عبد المجيد تبّون كبد الحقيقة بالقول إن “حراك 22 فبراير مبارك، يمثل إرادة الشعب التي لا تقهر، وجاء طلبا للتغيير ورفضا للمغامرة التي كادت تؤدي إلى انهيار الدولة الوطنية وأركانها والعودة إلى مأساة التسعينيات”.

إنها ثورة شعبيّة سلميّة أنقذت الجزائر من حكم تسلطي فرداني فاسد، فرضته عصابة لم يكن همُّها سوى ممارسة السلطة بمنطق التمتّع المادي الشخصي والغريزي، دون أدنى اعتبار لمقتضيات المسؤولية العامّة، لا دستوريا ولا أخلاقيّا.

وعلى حساب شعب مقهور الكرامة ومسلوب الحرية، عاثت تلك الشرذمة المحتكِرة للخيرات والثروات في الوطن فسادا واستبدادا طيلة سنوات، حتى طفح الكيل وبلغ السيل الزبى، فثار الشعب منتفضًا ليقتلع العصابة من جذورها، في ثورة لا نبالغ إن وصفناها بـ”المبهرة”، سلميّة وتحضرًا وتلاحما وإصرارا على بلوغ المرام، أظهر من خلالها كيف تعلّم من مآسيه المريرة ومن انتكاسة ربيع عربي انقلب شتاء صقيعًا.

إنّ حَراك الجزائر سيبقى علامة عربية فارقة، رفض التقليد ولم ينجرّ وراء أخطاء الآخرين، فجاء متميزا عن تجارب الأقطار العربية، ظلّ لعامٍ كامل محافظا على زخمه وهدوئه ومطالبه بالتغيير الفعلي والتأسيس للانتقال الديمقراطي الحقيقي، مهما حصل من انقسامات واختلافات في وسط الطريق ونهايته.

وبذلك، برز السؤال الحرج الآن في الذكرى الأولى للحراك عن المكاسب الإستراتيجية والآفاق المنتظرة؟ وفي الإجابة تختلف الآراء بتعدد زوايا النظر ومنطلقات التقييم.

غير أن الموضوعية تقتضي الإقرار أنّ الحَراك حقّق مكاسب مهمة لمشروع التغيير في الجزائر وإن لم يحصد كل التتويجات السياسيّة، كما أن الزَّعم ببلوغه محطة النهاية قولٌ ينكر الواقع ويتجاهل تحديات الانتقال وشروطه استكماله.

ولعلّ أهمّ إنجاز صنعه الجزائريون بثورتهم السلميّة، بموجب تعطيل العهدة الخامسة بكل مخاطرها وتداعيات إسقاطها، هو تطبيع علاقة المواطنين بالفضاء السياسي العام وإعادة تعبئة الشارع بكل فئاته وجهاته وشرائحه وأطيافه في معركة التغيير الكبرى، بعد ما طغت الاستقالة الطوعية الجماعية خلال العقود الأخيرة، بتزايد منسوب اليأس الشعبي من صدق النخبة وعجزها، ناهيك عن قمع النظام للجميع وغلقه للمجال السياسي، ما خلق حالة من الانسداد والإحباط القاتلة لقوى المجتمع.

إذن صار المطلوب اليوم هو الاستثمار في هذه الجاهزية والتحفّز الاجتماعي الذي أفرزه الحَراك لاستكمال الأشواط المتبقيّة في معركة التغيير الأكبر، ولن يكون من مصلحة الجزائريين ولا النخبة الحاكمة أن يتوقف المسار في منتصف الطريق، إن كان هؤلاء يؤمنون فعلا لا قولا بالإصلاح والانتقال بجزائر الشهداء إلى مصافّ الدول المتقدمة.

قد يسأل البعض: كيف يواصل الحراك مسيرته وسط الاختلاف حول جدوى الاستمرار في التظاهر الأسبوعي بينما البلاد تشق طريقها نحو عهدٍ جديد؟

ونجيب بأنّ استمرار الحراك بسلميته لا يعيق إرادة الإصلاح في شيء، بل يقويها ويسندها ويحرسها من الزلل أو التراخي، ولذلك لا ينسجم التوجه نحو بناء جزائر جديدة مع دعوات البعض بالتضييق على مظاهرات الجزائريين، وهو ما ردّ عليه الرئيس تبّون نفسه.

لكن ذلك لا يُعفي الحراكيّين من تقويم المسار وتصحيح الأخطاء إن وُجدت، لأنّ بقاء المواطنين في الشارع دون وجهة محددة وخطة واقعيّة للوصول إلى الهدف، أو بسطو تيار على شعارات الحَراك، سيضرّ بمعنويات الشعب، فضلا عن تضييع الفرصة التاريخيّة.

وفي المقابل، وجب على قوى الحراك التي آمنت بالمسار الانتخابي بنقائصه أن تنخرط بفعاليّة في ورشات النقاش العام حول الإصلاح الدستوري والقانوني، لتكون مواقفُها مؤثرة في ضبط آليات المرحلة القادمة، وبذلك تتكامل مكوِّنات الحراك في أداء الواجب من مواقع متفرّقة يسند بعضُها بعضا.

زيادة على ما سبق، فإن السلطة الجديدة طالما تبنّت مطالب الحراك جملة وتفصيلاً، ونحن نقرأ في خطابها وتعهداتها حسن النيّة، فهي مجبرة على التسريع بتنفيذ أجندتها الإصلاحيّة في كافة الميادين المُستعجلة، ضمن إطار توافقي تشاوري موسّع يستوعب كل الآراء.

إن أولى الخطوات المطلوبة في تدشين الإصلاح هو الشروع في إطلاق الحريات الفردية والعامّة، حتى يتسنّى للجميع المشاركة في رسم معالم المستقبل، لأنّ الحوار المنشود بين الجزائريين والتقارب اللازم لتوحيد الصف الوطني لن يحصل بمنطق الرأي الأحادي.

أضف تعليقك

جميع الحقول مطلوبة, ولن يتم نشر بريدك الإلكتروني. يرجى منكم الإلتزام بسياسة الموقع في التعليقات.

لقد تم ارسال تعليقكم للمراجعة, سيتم نشره بعد الموافقة!
التعليقات
0
معذرة! لا يوجد أي محتوى لعرضه!