حركة تحرُّر جديدة

من الواضح الآن، أنه، وبعد أكثر من 60 سنة على نيل استقلال معظم الدول الإفريقية، ومنها دول الساحل، بفضل حركة التحرر الوطنية، التي انطلقت من خمسينيات القرن الماضي، بدءا من ثورة 23 يوليو 1952، وانتهاء باستقلال الجزائر في 5 جويلية 1962، أن هذه الدول لا تزال تناضل من أجل سيادتها الكاملة على أراضيها وثرواتها وإرادتها السياسية الداخلية والخارجية وتوجُّهاتها التنموية والثقافية، بعد أن بقيت لعقود تحت هيمنة القرار الخارجي.
إفريقيا تتحرك اليوم في الاتجاه الصحيح نحو تصحيح ما فات وما لم تتمكن من إنجازه تحت راية الاستقلال الوطني. لقد فهمت إفريقيا الدرس الثاني كما فهمت الدرس الأول: لقد كانت ثورة الجزائر الملهم لشعوب القارة ودول الجوار في الشمال والجنوب لكي تثور ضد المحتل وتفتكَّ استقلالها الوطني. هذا الافتكاك لم يكن لسوء الحظ دائما موفقا وكما تطمح إليه الشعوب، لكون هذه الدول كانت في غالب الأحيان مغلوبة على أمرها، عرضة لاقتصاد منهار وقدرات علمية وثقافية ومقدرات تنموية غير قادرة على النهوض بسبب ارتباط البنية الاقتصادية لهذه البلدان بالبلد المستعمِر الذي جعل إفريقيا والمستعمرات بقرة حلوبا وأرضا سائبة للرعي ونهب المعادن الباطنية والجوفية والسطحية على حساب معيشة “الأنديجان” وسيادة الهيمنة والعبودية التاريخية.
هذه العقدة التي أبقت الغرب الاستعماري على علاقة بمستعمرات الأمس، رهينة لاقتصادها “سائدة على عبيدها القدماء والمتأخرين”، لا تقبل أن تحيّد وصايتها عليها وتعتبرها “حدائقها الخلفية”، تأتمر بأوامرها وتعيِّن حكامها وتفرض عليها عملات من صنف “الفرنك الإفريقي”، وأعلاما ودساتيرَ وحتى انتخابات ملفقة، معدَّة النتائج سلفا في مخابر العواصم الاستعمارية السابقة وسفاراتها فوق العادة وفوق القانون أحيانا.
كان للاتحاد السوفيتي دورٌ كبير، وللمعسكر الاشتراكي وقتها على ضعفه الاقتصادي وقوّته العسكرية، عمل على مساعدة هذه الحركات التحريرية سياسيا وماديا وعسكريا، ولكنه لم يكن بمقدوره أن يبني معها بنيتها التحية الاقتصادية ككل، رغم محاولات كبيرة من طرفه مع مصر والجزائر وبعض البلدان الإفريقية.
ومع انهيار الاتحاد السوفيتي في نهاية القرن الماضي، وبعد نحو 30 سنة، أي نحو جيل من ذاك الحين، هاهي الروح الثورية الثانية، الجديدة تعود في شكل “حركات تحرر جديدة” من بقايا تأثير ونفوذ الاستعمار. وكما بدأت حركة التحرير بالثورة على النظام الاستعماري من الجزائر بمساعدة الأشقاء العرب والدول الصديقة في المعسكر الاشتراكي وعدم الانحياز وحتى في أوروبا الغربية، تمكنت الجزائر من انتزاع استقلالها، بل ودفعت فرنسا لأن تعرض “الاستقلال” المشروط للجيران في الشمال والجنوب، فقط لتتفرّغ للثورة الجزائرية، كما فعلت بعد معركة “ديان بيان فو” الفيتنامية في 1954. تماما كما كانت ثورة الجزائر الفتيل المفجِّر لباقي ثورات التحرير للشعوب الإفريقية، فقد ألهمت مؤخرا توجهات الجزائر الجديدة في رفض بقايا هيمنة مستعمِر الأمس على الاقتصاد والتدخل في الشؤون الداخلية وتوجهاتنا السيادية، وهذا بفضل حركة التصحيح الفارقة التي حدثت منذ فبراير 2019، وتجسدت عمليا بعد انتخاب رئيس الجمهورية في ديسمبر من السنة ذاتها. هذا التوجه الجديد، الرافض للهيمنة والإملاءات من مستعمِر الأمس ومن تدخلاته السافرة عبر أعوانه ومصالحه وعملائه، هو ما حرك دول الساحل في مالي ثم في بوركينا فاسو، وليس مستبعدا أن تخسر فرنسا النيجر ودولا أخرى إلى غير رجعة.
عودة روسيا بقوة إلى المشهد القديم، يعزز دور الأمس لهذا البلد بالنسبة لكل دول إفريقيا وباقي الدول التي سرقها الغرب عبر ثوراته الملوَّنة، وهذا عبر موجةٍ جديدة من الثورات والحراك الشعبي، بالأبيض والأسود.