حزب الفيل وعرس بغل

عودة الكيان إلى ارتكاب جرائم الإبادة، أملا في أن ترفع حماس الراية البيضاء وتسلّم الأسرى في غزة للعدو من دون قيد ولا شرط، كان مبرمجا منذ بداية التفاوض، إنما كان يأتي في المرحلة الأخيرة، عندما لا يمكن أن يأخذ الكيان المزيد مما أخذه من انسحاب ولا انتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقَّع عليه الضامنون ومنهم الإدارة الأمريكية الحالية.
إذن، لا ضمان مع كيان تدعمه دولة عظيمة وتسوِّل له فعل كل شيء، لكون اليمين هنا واليمين هناك، وجهين لعملة واحدة: خطين شبه متوازيين، بمعنى أن الخطين قد يتقاطعان في مرحلة ما على امتداد الزمن: هذا الزمن لا نعرفه، ولكنه قد يأتي في القريب غير العاجل، وبالتأكيد قبل نهاية ولاية ترمب في البيت البيض، وربما خلال أقل من ثلاثة أشهر، فلن يكون أكثر مما مضى عليه “طوفان الأقصى” إلى حد الآن.
إلى حد الساعة، هناك تماهٍ وتطابق في وجهات النظر بين الكيان والإدارة الأمريكية الحالية التي تمنح الكيان كل ما يلزمه من دعم عسكري وغطاء دبلوماسي بلا حدود، على خلاف الإدارة السابقة التي كانت تدعم الكيان بشكل لا لبس فيه، إنما ببعض شروط كابحة أحيانا، لكون “خيمياء” نتنياهو لا تتماهى تماما مع “كيمياء” الديمقراطي بايدن.
الأكيد، أن هناك صراعا بنيويا في الولايات المتحدة كما في الكيان: هناك ترهُّل للتيار الديمقراطي العلماني اليساري في الكيان، تماما كما أن هناك شبه انهيار في الحزب الديمقراطي بعد تجربة بايدن، واكتساح اليمين الجمهوري للانتخابات الرئاسية السابقة، وهي ظاهرة صارت منتشرة في السنوات الأخيرة في أوروبا والعالم: صعود قوي لليمين واليمين المتطرِّف والديني، حتى في الأنظمة العربية، لصالح تراجع القوى المحسوبة على العلمانية واليسارية.
ما يحصل داخل الكيان، هو صراعٌ وجودي بنيوي: صعود اليمين المتطرِّف استغله بنيامين نتنياهو وبنى عليه مشروعه السياسي الشخصي، كمخلِّص للكيان الصهيوني. الحرب، بل الحروب على كل الجبهات تخدم وتغذي شهية اليمين الديني التوراتي التوسُّعي على حساب دول الجوار، واضحٌ ذلك من خلال بقاء الكيان في جنوب لبنان وتوسُّعه في سوريا، وبدء ضم الضفة بالكامل والقضاء على أي أسس لقيام دولة فلسطينية، لا في الضفة ولا في غزة، بل حتى إنهاء فكرة “اللجوء”، بالقضاء على اللاجئين والمخيمات، وإلغاء دور “الأونروا”، لأنها أصلا مرتبطة باللاجئين، واللجوء مرتبط سياسيا وقانونيا بوجود محتل وأرض محتلة.
كل هذا، يدل على أن مشروع اليمين الديني المتطرف في الكيان، المدعوم من اليمين الجمهوري المحافظ والإنجيليين الصهاينة في أمريكا، المتطابقة رؤاهم مصلحيا وعقائديا، وتمفصل علاقتها حول نظرية الإنجيليين الجدد، المتمثلة في “ليّيد الإله” لإجباره على “عودة المخلّص”، الذي نعدّه نحن المسلمين “الدجال”، هو مشروع مبنيٌّ على فرصة توسعة “أرض شعب الله المختار” لتصل إلى أقصى مدى. هذا المشروع، لا يمكن له أن يتحقق بالسرعة التي تحلم بها نبوءاتهم، إلا مع هذه الإدارة الأمريكية الحالية التي تتبنّى أطروحات الكيان بالكامل.
هذه هي حسابات اليمين، لكن الرياح قد لا تجري دائما بما تشهيه الأنفس: قد يحصلون على مكاسب تكتيكية من خلال حرب الإبادة، لكنَّهم لن يتمكنوا من إخضاع طالب حق، والخطان اللذان يبدوان من الانطلاق خطين متوازيين، يفضي بهما المآل إلى التقاطع في نقطة ما في وقت ما، بتضارب المصالح، والفسحة من الوقت التي مُنحت للكيان، لإكمال مهمة عاجزة سلفا تحت إدارة “حزب الحمار”، قد يصطدم مع “حزب الفيل”، بنفس الصخرة وتنتهي “حملة أبرهة” ومعها.. عرس بغل.